'ليلة الرئيس الأخيرة' تلاحق أحلام الزعيم

ياسمينة الخضرا يدخلنا في عالم الرئيس الليبي السابق معمر القذافي انطلاقاً من لحظة محاصرته داخل مبنى مدرسة في مدينة سرتْ مُنفصلاً عن أبنائه ينهشه القلقُ ويتملكه الغضبُ على الشعب كما يُصاحبنا الزعيم في وظيفة الراوي بضمير المتكلم في رحلته إلى جذوره في الفزان وانتمائه إلى عشيرة الغوص وما يحوم حول نسبه من الشائعات.

يختارُ الكاتبُ الجزائري المقيم في فرنسا ياسمين خضرا مادة أعماله من أحداث لم تًمر عليها مدة زمنية طويلة، بل لاتزال صور تلك الوقائع معروضة على شاشات التلفزيون، لكن يتفردُ صاحب "سنونوات كابل" في اقتناص مشاهد لا تُستنفدُ دلالاتُها على مر العقود، وكلما ومضت في ذهن المتلقي أو المُتفرج تنتقلُ به إلى تفاصيلِ الحدث.

هنا قد يتساءلُ المرءُ عن الجديد الذي يكتشفهُ بقراءة عمل يتناولُ موضوعاً تَحْمِلُ وسائل الإعلام، من خلال الصور المُرفقة بالتعليق كل جُزْئياته إلى المُتلقي؟ بالطبع لا يخلو الأمرُ من التحدي، غير أنَّ قدرة الكاتب تكمنُ في تجاوز ما هو مُتداول عن مادته، بصياغتها في إطار مختلف وعرضها في سياق جديد دون الانسياق وراء الصور المروجة إعلامياً.

يُدخلك ياسمينة الخضرا في عمله الذي يحملُ عنوان "ليلة الرئيس الأخيرة" الصادر من دار الساقي 2016 في عالم الزعيم الليبي معمر القذافي انطلاقاً من لحظة الذروة التي تجدُ فيها الزعيمُ مُحاصراً داخل مبنى مدرسة في مدينة سرتْ، مُنفصلاً عن أبنائه ينهشه القلقُ ويتملكه الغضبُ على الشعب الذي لم يُقَدِرْ فضائله، كما يُصاحبك الزعيم الذي أوكل إليه وظيفة الراوي بضمير المتكلم في رحلته إلى جذوره في الفزان وانتمائه إلى عشيرة الغوص وما يحوم حول نسبه من الشائعات.

كل هذا يأتي موازيا لما يُصَوره المؤلف من أجواء يسودها التوتر بين عناصر حمايته ورجاله المؤتمنين.

تُقاسمُ صورة الزعيم عتبة العنوان على غلاف الرواية، ويبدو معمر القذافي في حالة الغضب مُهدداً خُصومه كما يتصدر مَقْطعُ من رباعيات الخيام الصفحات الأُولى قبلَ انطلاقة السرد، وتدرك دلالة هذه العناصر الافتتاحية مع تَعاقب أقسام هذا العمل. إذ سيظلُ الزعيم مُنرفزاً حانقاً على منْ ثاروا عليه حتى لحظاته الأخيرة قبل أنْ يمسكَ به أعداؤه، إذ ذاك يستعيدُ هدوءه النفسي، وكما يقولُ بنفسه وصلَ إلى حالة استرفاع، مُنقطعاً عن الواقع مُستعيداً كلام أُمه، فالأخيرة تصفه بأن أُذنه التي يسمع بها صارت مُصغيةً إلى الشيطان والأُخرى لا تَسْمعُ أي كلام، ومن هنا يفك الزعيم ما يَجمعه بالرسام الهولندي فان غوخ الذي قطع أُذنه، كما تفهم مغزى رباعية الخيام عندما تَنْصتُ إلى الحوار المتبادل بين معمر القذافي وبعض عناصر حمايته منهم من يقرر اعتزال السياسة، إذا قُدِر له الخروج من المأزق ويكون كل اهتمامه لأُسرته .كما يبوح إبراهيم طريد الذي نال إعجاب سيده معمر القذافي بأنه سيسلك درب خاله في نمط الحياة ويعيش هادئاً بعيدا عن أحابيل السياسة. كما يستعيد العقيدُ في مطلع الرواية طفولته مرافقاً خاله في الفيافي ناهيك عما يشغله من السؤال حول مصير والده، وتلقيه لروايات مختلفة ومن ثُمَّ يتذكرُ مُشاكساته التي سببت الإحراج للأهل بحيث يتفقُ أفرادُ عشيرته على إرساله إلى المدرسةِ، وهو يتوقع بأنّه لو كانت المصحة موجودةً في منطقتهم لتركوه بين جدرانها. ولم تكُن حياة الزعيم بعيدة عن النزعة الرومانسية، إذ شغف بفاتن ابنة مدير المدرسة وظل مُحتفظا بهذا الحب العارم إلى أن ارتقى إلى رتبة الملازم، إذ أراد الوصول إلى أمنيته غير أن ما يسمعه من والدها يُسحقه نفسياً، ويأخذ العقيد ثأره على طريقته بعدما يُصبحُ رئيسا أوحد في ليبيا. وبذلك تتبينُ تركيبة شخصية الزعيم وأحيانا يتفاعلُ المتلقي إيجابيا مع بعض مواقفه، مثل ردعه لمن يهين الفقراء والمُعوزين في مدينة سرت. وما تلمس فيه من مشاعر الأبوة وخوفه على أبنائه. هكذا تظهر شخصية معمر القذافي بأبعادها المتعددة في الرواية.

استنطاق الزعيم

يستنطق المؤلفُ بطلهُ كاشفاً هواجسه كما يلجأُ إلى استخدام تقنية المونولوغ كلما يكونُ القائدُ لوحده على الخشبة، إذ تنهالُ على ذاكرته صور الماضي، وما كان يتوقعه من الأُبهة والوقار المُحاط بمشهده الأخير في الحياة، حيث تصور أن جثمانه المُسجي يحف به الرؤساء والملوك ويندبه الشعب الليبي.غير أنَّ ما وقع هو ما لم يُفكر فيه أبداً كان الزعيم يشمتُ بمصير بن علي ينعتهُ بألفاظ مُقيتة، بخلاف ابنه سيف، فالأخير يرى في تحولات تونس وهروب رئيسها نذير شؤوم، بجانب ذلك يحتلُ الأُسلوب الحواري مساحات واسعة من الرواية، بحيث يوفر عناء الجهد لمن يريدُ تحويل الرواية إلى عمل مسرحي، إذ غالباً ما يبدأُ المشهد الحواري بحضور ثلاث شخصيات في غرفة عناصر الحماية، قلما يدور الحوارُ في الطابق الثاني المُخصص للزعيم، وبذلك وفق الكاتبُ في توزيع المشاهد على مساحتين، كأنما تُشاهد مسرحيةً تعتمدُ على تقنية الإضاءة والعُتمة للإيحاء بالتحولات وتغير الأمكنة. وفقاً لما تقتضيه المواقف والتطور الدرامي. طبعاً تساهمُ هذه الأساليبُ في تعزيز البناء الفني للعمل وتَخَلُصه من التورمات الزائدة. إذ يُعينُ ياسمين الخضرا عنصر الزمن في بداية الرواية وهو ليلة 19- 20 أكتوبر/تشرين الأول2011 كما يكون المكان المُغلق على فضاء العمل من الغرفة مرورا بالبنايات وصولا إلى أنبوب الصرف الصحي.

بانتظار فان غوخ

علاقة الزعيم بالفنان الهولندي فان غوخ تعودُ إلى مرحلة الدراسة الثانوية إذ يتعرف على صاحب لوحة "آكلو البطاطا" من خلال كتاب يستعيرهُ من أحد أصدقائه، وما ارتسمُ في ذهنه عن هذا الفنان هو صورته الشخصية، يبدو فيها بأُذن واحدة ملفعاً بالأخضر، إذ كلما يكونُ الزعيمُ مُقبلا على أمر جلل يأتيه فان غوخ في المنام على شكل كابوس مُفزع، حاول معمر القذافي فكَ هذا اللغز باستشارة أحد مفسري الأحلام في شبه الجزيرة العربية غير أنَّ اللغزَ بقي بدون الحل. يقرنُ حضور فان غوخ في أحداث مِفصلية في حياة الزعيم فقد ظهر في لحظات قبل أن يتلقى خبر انتصار الثورة وتنحي ولي العهد. كما تتكرر زيارتهُ قبيل تنفيذ الانقلاب عليه فأخذ الزعيم بزمام المُبادرة وضع نهاية للمتورطين.

يترقب معمر القذافي في لحظاته الحرجة إشارة فان غوخ ويبحث عنْ صوته الداخلي، غير أن لا هذا ولا ذاك يستجيب لتوسلاته إلى أن يتوقف به شريط ذاكرته لما قال له صديقه الشاعر باسم نانوت، فالأخير لا يجدُ لنفسه بيتاً إلا في الكتب القديمة، على حد تعبير الزعيم. تعارفا في لندن وعقب وصول العقيد إلى أعلى سدة السلطة يلتقي به من جديد ينطق بجمل تحمل دلالة تنبوئية .أنت تهدم بيد ما بنيته بيد أُخرى لا تثق في الجماهير فالشعب أُغنية مغوية وحماسته إدمان خبيث.

يَسْتمدُ هذا العمل خصوصيته من عدم اللجوء إلى الأقنعة أو تحوير أسماء الشخصيات والتواريخ والبنية المكانية، كما تتواردُ جملة من الألفاظ والتعابير التي غدت لازمة للزعيم الليبي في وصفه للخصوم والمعارضين دون أن يخسر بذلك عناصر التشويق وتَمّيزه الفني إذ تعَدُ كثافة التعبير ورشاقة الأُسلوب من العوامل الأساسية لنجاح العمل.