مأزق الديني بين التعويض الوهمي والتحقيق الرمزي

يستطيع الدين، إذا تخلص من مساعي الهيمنة أن يصبح واحدا من إنزيمات الديمقراطية وليس أفيونها.
ثنائية الديني والسياسي في صورة تخاصم دائم وضعية متأزمة تؤدي إلى انقسام المجتمع
توتر بين رؤية إيمانية للعالم ورؤية علمانية أدى إلى ميلاد تنازع بين تصورين

لم يعد من المناسب تذكير الناس بكون "الدين أفيون الشعب"-وهي عبارة شهيرة لكل من ماركس وأنجلز- خاصة بعد زوال الاستقطاب الثنائي للعالم واسترجاع الدين لوظيفته التقليدية في المجتمع وتزايد تنامي التعبيرات الراديكالية للجماعات الدينية في الحقل السياسي وبقاء مظاهر استغلال الإنسان واغترابه قائمة. كما أدى الحدث الرمزي الذي دل على تراجع الحركة اللاّدينية إلى التفكير ضمن تلاقي فضاءات الفلسفة والتيولوجيا والسياسة في صياغة نظرية جديدة في العالم وبناء إنسية جديدة متجهة بالأساس نحو الالتزام.

لقد اتضح للعيان بأن الإبقاء على ثنائية الديني والسياسي في صورة تخاصم دائم هو وضعية متأزمة تؤدي إلى انقسام المجتمع وتمزج النسيج العلائقي بين المجموعات والأفراد وحدوث أزمة في الوعي الجمعي. في هذا السياق ظهرت أصوات تنادي بأن الدين ليس وهما متعاليا ولا مجرد اعتقاد يوتوبي يحرف الواقع ويكرس جبرية صارمة تصادر حق الإنسان في التمتع بالحرية ويتسبب في ظهور التعصب واللاّتسامح وإنما يمنح الناس الثقة في الوعود التأسيسية بتغيير نظام العالم وفضاء قدسي يدفعهم إلى الالتزام بالقيم.

في هذا السياق ظهر تقارب واضح بين الأديان السماوية المنزلة والتي تلتقي حول وجود الله ووحدانيته وبعثه للرسل والأنبياء بمجموعة من الكتب المقدسة من خلال تلاقي اللاهوت بالناسوت ومسالة البعث.

غير أن هذه الأديان السماوية جاءت في فترة متأخرة عن الأديان الطبيعية التي كانت من صنع البشر وتميزت بالوثنية والتصورات الميثولوجية وعقبتها أديان وضعية ساهمت العلمنة والدنيوية في تشكلها.

إن التبعات الحاصلة عن الخروج من الدين خطيرة وكارثية وتتسبب في فقدان البشرية لمعنى وجودها في العالم والهدف السامي للحياة ولكن بروز التعبيرات اللامعقولة والعنيفة للديني في صورة جماعات الدين السياسي تحت عنوان الدفاع عن العقيدة والمحافظة على المقدس يفضي إلى قيادة الديني للفضاء السياسي ويترتب عن ذلك اختراق للقوانين السياسية والحقوق المدنية للمواطنين والطابع السلمي للاتصال والتبادل.

على إثر ذلك ظهرت مشاعر دينية تتميز بالثورية على اليسار وبالمحافظة على اليمين تثمن الانخراط في القضايا العامة وتحرص على الالتزام في المدينة وتقف مع النضال الاجتماعي قصد بلورة إيتيقا تحررية.

كما برز توتر بين رؤية إيمانية للعالم ورؤية علمانية أدى إلى ميلاد تنازع بين تصورين للإنساني يعتقد الأول في اقتدار المجتمع على حكم نفسه بنفسه دون أن يحتاج أعضائه إلى إرادة سياسية وبالتخلص من وساطة الثقافة ، بينما يرى الثاني أن إنسانية الإنسان هي ثمرة فعل وسائطي تقوم به الذات على نفسها ضمن مشروع ثقافي متكامل من المراجعات والتنقيحات والتعديلات للتمثلات عن العلاقة مع الآخرين.

ماهي الشروط الفلسفية التي يجدر توفيرها بغية تشييد الالتزام الإيتيقي والوعي الديني للوجود المشترك؟

يتضمن الديني شبكة من العلاقات يقيمها الإنسان مع نفسه ومع الله ضمن مملكة الروح والمطلق ومع الآخر ضمن مملكة البشر والنسبي وبالتالي يهتم الدين بمعالجة مشاكل هذا العالم الدنيوي بنفس القيمة أو أكثر من معالجة الأسئلة المفارقة والقضايا الغيبية ولذلك ينخرط في الصراعات السياسية بين الناس من أجل التخفيف من بؤس الإنسان وتلطيف بشاعة العالم ويلتزم بالمساعدة على التعويض والجزاء والرحمة.

لا يساعد الدين على ضياع وهروب الناس من الواقع مهما كانت درجات بؤسه وانحداره وإنما يسمح لهم بالانخراط في العالم والاندماج في المجتمع وفق توجيه إيتيقي وسياسي يكون غرضه الانعتاق والارتقاء.

بيد أن التجربة الدينية تتلبس بالأزمة من حيث هي تجربة لغوية وما تشير إليه من تعلق وارتباط وتبعية وكذلك ما تفرضه من شعائر وتكاليف وواجبات تجاه الكائنات العليا التي يشعر الفانون تجاههم بالدَّين. كما يشعر الفانون بالإلزام تجاه المقدس والخضوع التام للمشيئة الإلهية ولكنهم يحسون بالتناهي واللاّعصمة بالمقارنة مع الكائن الأول الذي يتميز عن بقية الكائنات بالاطلاقية والسمو والتعالي والكمال واللانهائية.

من هذا المنطلق يقترن الدين بالفضيلة والمحبة ويترجم بشكر البشر للمبدأ الأول والحاكم الأول على جميع الأشياء ويعبرون من خلاله عن امتنانهم وفق إرادة نزيهة ومخلصة عن الإحسان والعناية الإلهية. لقد ترتب عن ذلك تحول الدين إلى فضيلة أخلاقية تسمح بتوجيه حياة الناس بواسطة العقل وبتوافق أفعالهم الإرادية واختياراتهم السلوكية مع الغايات اللاّمحدودة والأهداف السامية التي صممتها الحكمة الإلهية.

لكن مصطلح الدين منذ استقراره في الحقل الدلالي ظل يشير إلى سجل الحياة الاجتماعية التي تتحرك، من جهة معتقداتها وممارساتها، حول نقطة مركزية هي تجربة المقدس التي تدار بصورة مستقلة عن الدولة. كما أن مقولة العدل الإلهي تبدو متناقضة مع بروز التفاوت الطبيعي بين الكائنات وظهور الشر في الحياة وقد تصطدم إرادة الله الطيبة ورحمته بالناس ولطفه بعباده بنظام الكون وسننه التي وضعها في الطبيعة.

لكن هل يجوز التسليم بالتطابق بين المشاعر الدينية والأفعال الأخلاقية وبين كونية العقل وثباته من جهة وخصوصية العاطفة وتغيرها من جهة أخرى؟ وكيف تسمح عملية خلع القداسة عن العالم بظهور أشكال دينية جديدة تحاول إعادة إدراج المقدس في العلاقة بين الإنسان والعالم بصور متعددة ومتنوعة ومختلفة؟