مأزق الفنان تحت ظل النظام الشمول في' حلم حياة سوخانوف'

قد يبدو أن رواية أولغا غروشينا المكتوبة في أميركا باللغة الانكليزية لا علاقة لها يالأدب الروسي وإن كان بطل الرواية يحمل لقباً روسياً والحقيقة هي أنها أكثر صلة بالأدب الروسي من الروايات المكتوبة باللغة الروسية من قبل مشاهير الكتاب الروس المهاجرين.

على مدى السنوات القليلة الماضية، تحدث نقاد الأدب في الولايات المتحدة الأميركية بشكل متزايد عن الأدب الروسي الأميركي "الناشئ"، ومن بين ممثلي هذا الأدب الأكثر إثارة للإهتمام الكاتبة الروائية  أولغا غروشينا، التي نجحت في  لفت الأنظار إليها منذ نشر باكورة أعمالها الروائية "حلم حياة سوخانوف"(2006) التي أشادت بها كبريات المجلات الأدبية الأمريكية والبريطانية، وتم إدراجها ضمن "أبرز مئة كتاب لعام 2006" (وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز)

 في عام 2007  أدرجت المجلة الأدبية البريطانية المرموقة "غرانتا"  أولغا غروشينا في قائمتها المحدثة لأول مرة منذ 10 سنوات، أفضل الروائيين الشباب في الولايات المتحدة.

تحدثت غروشينا عن سيرتها الذاتية على موقعها الألكتروني، وفي العديد من المقابلات الصحفية، وهي تؤكد باستمرار على تفرد المسار الذي قادها إلى أميركا. روايات غروشينا وسعت الفجوة الواضحة بينها وبين بقية الكتاب الروس الأميركيين من جيلها، فهي على عكس معظم هؤلاء، الذين تدور رواياتهم حول سيرهم أو تجاربهم الذاتية المتخيلة، اتبعت غروشينا مسارًا جديداً، وهي الكتابة عن وطنها الأم دون الخوض في تفاصيل حياتها الشخصية، وخلقت في رواياتها أبطالاً لا يشبهونها. وهي تكتب  ببطء ولكن بعناية، رواية كل خمس سنوات باللغة الإنكليزية. صدرت لها لاحقاً ثلاث روايات أخرى:  "الطابور" (2010) التي نشرت في المملكة المتحدة تحت عنوان "تذكرة لحفل موسيقي" وهي تحمل نفس عنوان رواية فلاديمير سوروكين ولكنها كتبت بأسلور مختلف تماماً، و"أربعون غرفة" ( 2016)، و"الزوجة الساحرة" (2202). ترجمت أعمالها إلى خمس عشرة لغة بضمنها الروسية.

ولدت أولغا غروشينا في موسكو عام 1971 لعائلة بوريس غروشين، عالم الاجتماع السوفيتي البارز، وأمضت معظم سنوات طفولتها في براغ، تشيكوسلوفاكيا. درست الصحافة في جامعة موسكو الحكومية قبل حصولها على منحة دراسية في جامعة إيموري في عام 1989. تخرجت بامتياز مع مرتبة الشرف في إيموري عام 1993. حصلت على الجنسية الأميركية في عام 2002، لكنها تحتفظ بالجنسية الروسية.

 عملت غروشينا في مهن عديدة (مترجمة فورية لجيمي كارتر، ونادلة كوكتيل في حانة لموسيقى الجاز، ومترجمة في البنك الدولي، ومحللة أبحاث في مكتب محاماة في واشنطن العاصمة، ومحررة في مكتبة ومجموعة دومبارتون أوكس للأبحاث بجامعة هارفارد).

وفي الوقت نفسه نشرت قصصا قصيرة في بعض المجلات الأميركية قبل نشر روايتها الأولى.

"حلم حياة سوخانوف"

كان أناتولي بافلوفيتش سوخانوف ذات يوم فنانًا سريالياً واعداّ، يستمع بشغف إلى موسيقى الجاز، ويتابع نتاج الفن الغربي بإعجاب، ويدرك حقًا قوة الفن، التي وصفها بهذه الكلمات: "صمت طويل رنان يملأ سمعك، يقف العالم ساكنًا، كما لو كان تحت تأثير تعويذة سحرية، و تتدفق الأفكار والمشاعر بحرية من خلال كيانك. تجد نفسك قد تغيرت، تغيرت بشكل لا رجعة فيه، ومنذ ذلك الحين، سواء كنت تريد ذلك أم لا، تمضي حياتك في اتجاه مختلف".

نشأ سوخانوف إِبَّانَ  سنوات الرعب الستالينية، حيث يمكن للرجال من ذوي "الظهر الجلدي العريض والأحذية السوداء المصقولة" أن يأتوا بسهولة إلى بابك في الليل. عندما كان سوخانوف طفلاً، رأى والده يقفز الى حتفه من النافذة، وشاهد آخرين وهم يساقون من قبل السلطات الى المنافى أو معسكرات الإعتقال أو يتم زجهم في المصحات العقلية.

يرتبط الصراع بين الإخلاص للفن وبين الأمن الشخصي والنجاخ المهني بالاهتمام المركزي في رواية غروشينا: العلاقة الإشكالية بين ماضينا وحاضرنا، وكيف أن حياتنا لا تتطابق دائمًا مع مُثُلنا العليا. تضخم هذا المأزق في وعي سوخانوف، عندما واجه الحقائق المرعبة عن إضطهاد الفنانين الأحرار، فقد كان النظام السوفيتي قوة كارثية يالنسبة إلى أي مبدع حقيقي، يضطر تحت وطأتها إلى الاختيار بين حرية الإبداع والحياة الآمنة. لم يجد سوخانوف حلاً لمخاوفه المدمرة، سوى أن يدير ظهره لموهبته، ويتخلى عن أحلامه في الإبداع الفني، ويتخذ قراراً سيئاً بحق نفسه، بالإنضمام إلى الحزب الحاكم والعمل حسب توجيهاته.   

في عام 1963، عندما كان في الرابعة والثلاثين من عمره، تحول إلى ناقد فني وحظي بمباركة القائمين على الشؤون الثقافية، بعد أن إنتقد في مقالاته الإتجاه السريالي في الفن التشكيلي، ووصفه بأنه جنون و" خيانة للشعب"، لأنه بزرع اللامبالاة المنحطة في النفوس، ويتناقض مع مبادىْ الواقعية الإشتراكية والتربية الفكرية والجمالية للشغيلة. أرتقى سوخانوف مهنياً، وتولى رئاسة تحريرالمجلة الفنية الأولى في الإتحاد السوفيتي "عالم الفن" بدعم والد زوجته الفنان بيوتر مالينين، صاحب النفوذ الكبير في عالم الفن السوفيتي. كانت المجلة تلتزم بالأوامر الحزبية، وتتجاهل كل فنون العالم تقريبا، وتهاجم الفنانين التجريديين والسرياليين - الذين ألهموه ذات يوم - لصالح لوحات لفتيات فلاحات ينقلن البطاطس بفخر. سوخانوف يقضي وقته في مراجعة ونعديل المقالات المعدة للنشر، وحذف أي إشارة إلى الانجيل أو أي ديانة أخرى، أو أسماء الفنانين المدرجين في القائمة السوداء، وإضافة اقتباسات من ماركس ولينين، وانتقاد اللوحات الفنية لعصر النهضة (الدينية) والانطباعيين (البرجوازيين). يمكنه أيضا أن يشرح بسهولة "الفرق بين دالي، الفاحش بحكم ولادته الأجنبية... وشاغال، الذي اختار مغادرة روسيا وتحول إلى شخص يثير السخط".

يتمتع سوخانوف لقاء خدماته للحزب بالعديد من الامتيازات: يعيش هو وزوجته الجميلة نينا مع طفليهما في شقة كبيرة في أحد أرقى أحياء موسكو، إلى جانب منزل صيفي في الريف. ويستخدم سيارة حكومية فارهة لتنقلاته، مع سائق شخصي يرتدي قفازات من الشامواه، في حين يعيش ملايين المواطنين الروس العاديين في شقق مشتركة مكتظة. نلتقي بأفراد عائلة سوخانوف  لأول مرة، وهم في طريقهم إلى الافتتاح الكبير لمعرض لوحات بيوتر مالينين المرسومة وفق معايير الغن الواقعي الإشتراكي. تحرص الكاتبة على الإشارة إلى أنه لم يكن هناك فتور في المشهد الثقافي في موسكو في هذا الوقت، ولكن الفن كان مقيدا للغاية ومتزمتا وبلا معنى. هنا يكمن جذر أزمة سوخانوف، الذي يتجلى أولا في شكل أحلام وذكريات لا إرادية

في عام 1985، تتعمق أزمة سوخانوف الشخصية بسبب التحولات السياسية والتاريخية والثقافية التي تحيط به في فترة البريسترويكا.

لم يشعر سوخانوف بهذه التحولات بشكل مباشر في البداية، حيث عزل نفسه عما يجري خشية الكشف عن ماضيه الإشكالي وهذا العزل الذاتي  حجب عنه الحقائق المستجدة في بلاده. وبدت له الأحداث الجارية غير منطقية - لكن القارئ يرى أنه تآكل حتمي ومتأخر لأوهامه. لم يكن أحد يعرف إلى متى سيستمر هذا التحول، وما إذا كان يمكن الوثوق به. يتغير مسار الحياة الطبيعية لسوخانوف، عندما يعجز عن إدراك مغزى التحولات الجارية في البلاد، ولا يستطيع أن يفهم أسباب ما يحدث له. في غضون فترة قصيرة، يتحول حياته المرفهة والمريحة إلى أنقاض: يكتشف أن ابنته هي عشيقة رجل متزوج، وابنه دبلوماسي إنتهازي، وزوجته، التي عاش معها بسعادة لمدة عشرين عاما، تنتقل للعيش في القرية، لأنها في حاجة إلى قضاء وقت بمفردها، علاوة على ذلك، يفقد منصبه كرئيس تحرير مجلة مرموقة، بعد أن أصبخ عائقا أمام العهد الجديد.عهد الشفافية والحرية. كل هذه المتاعب تقوده إلى الانهيار العصبي. وإذا كان سوخانوف نفسه مرعوبا من كل هذه التغييرات والتناقضات، فإن الجميع يعتبرونها أمراً مفروغا منه

تغوص الرواية في سيرة سوخانوف منذ نشأته الأولى، مروراً بحياته المرفهة، حتى إنهياره، وتفكك علاقاته الأسرية.

السرد الذي يبدو عاديا في البداية، سرعان ما يأخذنا إلى سلسلة من صور الأحلام الغريبة.. يتم وصف حياة بطل الرواية على مستويين زمنيين – أحداث الحاضر وذكريات الماضي - اللذان يتداخلان في كثير من الأحيان بشكل غريب، حبث بتشكل مستوى ثالث مبطن، يذكرنا بأعمال غوغول وبولجاكوف.كما يتغير الراوي من وقت لآخر من الشخص الثالث إلى الأول، لكن هذا التغيير سلس ومترابط، ولا يحوّل الرواية إلى نصوص من أجزاء غير متماسكة، كما هو الحال غالبًا في النثر الفني الحديث.

رواية روسية خالصة

قد يبدو أن الرواية المكتوبة في أميركا باللغة الانكليزية، لا علاقة لها يالأدب الروسي، وإن كان بطل الرواية يحمل لقباً روسياً، والحقيقة هي أن رواية " حلم حياة سوخانوف"، أكثر صلة بالأدب الروسي من الروايات المكتوبة باللغة الروسية من قبل مشاهير الكتاب الروس المهاجرين، مثل ميخائيل شيشكين المقيم في سويسرا أو دينا روبينا المقيمة في إسرائيل. هذه رواية روسية خالصة مشبعة بالأدب والثقافة الروسيين وتتناول الواقع السوفيتي. لا يسع المرء إلا أن يتساءل لماذا نالت هذه الرواية اعجاب الأميركيين؟. ربما لأن حبكتها شائقة، ولغتها العميقة البارعة ليست الإنجليزية، بل الروسية.: بالنسبة للغة الإنكليزية، تبدو الرواية غريبة إلى حد ما، ولكنها لا تبدو كذلك بالنسبة إلى اللغة الروسية. تقول الكاتبة في إحدى مقابلاتها الصحفية :"للحفاظ على هوية النص الروسية كنت استخدم بعض العبارات الروسية، في إطار قواعد اللغة الانكليزية، إلى جانب تبني طريقة التفكير المحلية للجيل الروسي، ورجال المخابرات السوفيتية في الستينات بصورة خاصة، حيث يتكرر في حياتهم اليومية، وفي مختلف المواضيع، استخدام كلمات مثل الروح والجمال والحقيقة".

أثارت الرواية العديد من المقارنات مع أعمال فلاديمير نابوكوف، ليس فقط لأن المؤلفة مهاجرة روسية تعيش في أميركا، ولكن بسبب أوجه التشابه في استخدامهما للغة الإنكليزية. كلاهما يكتب بأسلوب يختلف تماماً عن أساليب الكتاب الأميركيين المعاصرين.

 هنا تواصل غروشينا تجربة نابوكوف، الذي كتب بلغة إنكليزية جميلة، ولكنها غريبة نوعا ما بالنسبة إلى الناطقين بهذه اللغة، حيث برى بعض النقاد الأمريكيين أن نابوكوف كاتب عظيم على وجه التحديد بسبب الابتكار اللغوي، وليس بسبب محتوى رواياته. ويكتبون عن لغة نابوكوفية خاصة. غروشينا ليست نابوكوف ،.بصرف النظر عن أوجه التشابه على مستوى اللغة   فهي أكثر تقليدية منه  في اسلوبها الفني، وأكثر إنسانية تجاه شخصياتها، ولا تعاملهم أبدا، كما تعلمل نابوكوف مع شخصيات رواياته، بصفتهم"عبيد مطبخ الكتابة". ومن المثير للإهتمام تعاطف الكاتبة مع سوخانوف على الرغم من عيوبه الأخلاقية العديدة. ولا تنسى الكاتبة التطرق إلى الطرائف، التي كانت شائعة في زمن البريسترويكا. يسخر رجل عجوز قائلا:"لا جدوى من قراءة الصحف في الوقت الحاضر. "أتذكر... عندما كنت أستيقظ كل يوم لأقرأ عن بطل جديد في العمل الاشتراكي أو مزرعة جماعية ذات أداء فائق. كان قلب الانسان دائمًا مليئًا بالبهجة والفخر ببلده..." آه. أين اليوم رواد العمل في المزارع الجماعية؟.

إذا تعمقنا في لغة رواية غروشينا ، نكتشف انها لغة النثر الفني الروسي الكلاسيكي، لغة رفيعة، ولكنها تقليدية قريبة من لغة الكاتب والشاعر الروسي إيفان بونين (1870- 1953) الذي كان أول كاتب روسي بفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 1933..

فعلى سبيل المثال يدل هذا المقطع من "حلم حياة سوختنوف" على مدى تأثر غروشينا بالنثر الفني الجميل لسلفها العظيم، خاصة في وصف الطبيعة:" "ثم قادته إلى الحديقة. تجولا معًا على طول المسارات المتعرجة بين أحواض الزهور وأحواض الخضار وشجيرات عنب الثعلب. أرته أزهار القطيفة متوهجة صفراء وبرتقالية، وأكوام من الأغصان في الحفرة خلف الحظيرة حيث رأت قنفذًا عجوزًا قبل يومين، والأوراق الملساء المصقولة من وردة شاي نادرة، مرصعة بالبراعم الجاهزة للتفتح. تخلف خطوة، أومأ برأسه عندما ذكرت نباتات غير مألوفة له، وبدا له أن مشاعره كانت منسجمة مع أكثر التغييرات غير المحسوسة، التي كانت تحدث في الكون. مع برودة تستحوذ على الأعشاب تدريجيًا، مع أول بادرة لرطوبة المساء تتسلل إلى الهواء، مع التدفق المحسوب للوقت واللون، حيث أفسح الذهب الأخضر لأوراق الشجر المتمايلة في فترة ما بعد الظهيرة العاصفة، الطريق للون الفضي الأرجواني الشفاف، مع حلقات رقيقة من الدخان تتصاعد من السقف المجاور، التي تفوح  برائحة الأوراق المحترقة، القابضة للنفس".