مئة عام والغاز العراقي يُحرق هباء

كنا نلهوا برؤية شُعل المصافي، وما كنا نعلم أن مستقبل الأجيال يُحرق، مثله مثل جثامين الموتى.

ستحل بعد أربع سنوات مئوية نصب أول مصفى نِفط عراقي، ومِن ذلك التَّاريخ (1927) وشعل غاز الآبار والمصافي كافة لم تطفأ ليلاً ونهاراً، تضيء الفضاء، حتَّى يومنا هذا. أوجب قول ذلك ما يعيشه العِراق راهناً، مِن أزمة الغاز السَّائل الحادة، ومع وجوده بغزارة، يستورد مِن الجوار، فيجري التّحكم، ولهذا التَّحكم خط أحمر أيضاً.

لستُ اقتصاديّاً، لكنني شاهد عيان على حرق الغاز، كنا، ومن الطّفولة، إذا ولينا وجوهنا جنوباً، نرى مِن فوق أطراف الهور شعلةً، عُرفت بـ«نار الشّعيبة». كنا قبل شيوع الكهرباء، نعتقد بأَّنها مصباحٌ عملاقٌ، يُسرج ليلاً، وما كنا نعلم أنها محرقة الغاز النَّفيس عالمياً، تهبه الأرض مِن رحمها نعمةً لا نقمةً لتأكله النَّار، سماه المختصون بـ«الغاز المصاحب»، وإذا «المصاحب» بنى دولاً، جعلها على صغرها عملاقة باقتصادِها. حللنا ببغدادَ، وإذا شعلة الشّعيبة نفسها تظهر خلفنا، ممِا يُقابل مقاهي وحانات «أبو نواس».

كأن لهيبها يتراقص طرباً على أنغام الأغاني الصّوادح، على شاطئ دجلة، قبل تحول الجرف الغربيّ إلى دار حكم حصينة، ثم منطقة خضراء أكثر حصانة، ولم يدر بخلدنا أنَّ هذه الشّعلة العظيمة، التي يُضاء بها النّهر، هي محرقة للغاز المصاحب أيضاً، حيث «مصفى الدّورة». غير أن ما كنا نعتبره بهاءً للمكان، وتخيلناه، مِن قبل، سِراجاً عظيماً، أثار قلق الاقتصاديين الأوائل، والحكومات نفسها، لذهاب الثّروة هباءً، فمحرقة الشّعيبة تقع على أطراف البصرة، والدّورة، حيث ينعطف مجرى دجلة، وسط بغداد، ومع خسارة الغاز يُجنى التلوث وسط المدن.

نقرأ الآتي: «يُعدّ غاز النِّفط مصدراً مهماً للثروة، يُنتج عن استخراج النِّفط، وهو الغاز الذي يضيع الآن بالاحتراق، والذي يمكن استغلاله بكميات وافرة لدعم الحركة الصّناعيَّة في العِراق، وتقوم حكومة الجمهوريّة بوضع الخطط اللازمة لاستغلال هذا الغاز، وتجهيز المشاريع الصّناعيّة الحكوميّة به، وتوزيعه على مركز الاستهلاكات الصّناعيَّة، ومشاريع الإسكان الرَّئيسية»(دليل الجمهوريّة العِراقيّة 1960). تصوروا بعد 63 عاماً، مِن هذا التَّنبيه الرّسميّ، يتجمهر العراقيون طوابير طوابير، حاملين قناني الغاز فارغات، أمَّا الصّناعة، التي جرى التّفكير بدعمها، فككت أدواتها، ولم يعد مصنع فتاح باشا ينتج البطانيات، ولا سامراء تنتج الأدوية، ولا البصرة الورق، ولا كربلاء الدِّبس والمربيات، ولا منطقة المعامل الطَّابوق، فالاستيراد صار وفق العقيدة.

كان «مصفى الوند» أول المصافي، أنشأته شركة نِفط خانقين (1927)، ثم «باباكَركَر» بكركوك، فمصفى الحكومة (1935)، و«الدّورة» (1955) قيل أنشئ بأيدٍ عراقيَّة (دليل الجمهوريّة 1960 والملكيّة 1936)، وغيرها مِن مصافٍ، تحرق الغاز كنفايات. لكن أغرب القصص كانت لـ«مصفى بيجي»، أضخم المصافي، أنشئ (1978) على أثر ثورة النّفط الكبرى، غزته «داعش» (2014) فتحكمت به، وبعد طردها سُرق، وهو بمثابة مدينة، وهُرب في ليلة ليس ظلماء، وعاد، بعد سنوات، في ليلة ظلماء، لم تعلن أسماء المهربين والبائعين والمشترين. لكنّ الذين استغلوا إنجازات الجيش العراقيّ، بتحرير «بيجي» ورثوا ما غزته «داعش»، وعذرهم أنه مِن المعادن «مجهول المالك»، هؤلاء وحدهم يُسألون عن المصفى، لكنّ إذا تكلم العراقيّ، أخرسوه بخدعة: «حَمينا عرضك»!

كنا نلهوا برؤية شُعل المصافي، وما كنا نعلم أن مستقبل الأجيال يُحرق، مثله مثل جثامين الموتى، كي لا تلوث الأرض! فهل مِن تفكير بهذه المحارق، والتَّحرر مِن كماشة المورد المقدس، التي جعلت العراقي لا يطهو، ولا يتدفأ إلا بشروطها! ليس لنَّا الاستغراب مِن خزين الغاز، واستخراجه لغرض حرقه في الفضاء، ومنع صناعة وزراعة وفق مفاهيم أصحاب الولاية، كي تبقى الكماشة تعصر رقبةَ العِراقِ، ولنّا استعارة التَّشبيه مِن أحمد الصَّافيّ (ت: 1977): «جاءته حوتُ البحرِ ظامئةً له/ أو ما كفاها بَحرها العَجاجِ» (عزّ الدِّين، الشّعر العِراقيّ الحديث).