ماذا يجني العراق من تفاهمات واشنطن وطهران؟

لا ينبغي الاستغراق في التفاؤل كثيراً، كما لا يجوز الاستغراق في التشاؤم بغياب التفاهم أو الاتفاق عندما يتعلق الأمر بين طرفين ديناميكيين مثل الولايات المتحدة وإيران.

في الوقت الذي راحت تلوح في الأفق السياسي في كل من واشنطن وطهران مؤشرات واضحة إلى حد كبير عن قرب التوصل إلى اتفاق غير مكتوب، أو تفاهم الحد الأدنى بين الطرفين بشأن البرنامج النووي الإيراني، تحرص أوساط ومحافل سياسية عراقية على مراقبة التطورات ومتابعة المستجدات التفصيلية في هذا الملف بدقة وعناية، وتحاول أن تدفع الأمور إلى الأمام في سياق جهود بغداد ومساعيها المتواصلة بأكثر من اتجاه، وعلى أكثر من صعيد لنزع فتيل التوترات وتخفيف حدة الأزمات في المنطقة. وغير ذلك، فإنها-أي بغداد-قد يكون لها دور ما في ترتيب التفاهمات بين واشنطن وطهران.

وخلال الشهور القليلة الماضية، تحدث عدد من كبار المسؤولين الحكوميين العراقيين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ووزير خارجيته فؤاد حسين عن أهمية توصل كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية إلى اتفاق أو تفاهم يفضي إلى احتواء خلافاتهما، معتبرين أن أي تفاهم بين الطرفين المتخاصمين منذ 44 عاماً، من شأنه أن ينعكس إيجاباً على العراق وعموم المنطقة.

وفوق التمنيات والطموحات، ربما ليس خافياً على المتابعين والمهتمين، طبيعة الحراك العراقي المعزز للحراك العماني من أجل فك بعض العقد المستعصية والعراقيل القائمة في طريق التفاهم الإيراني-الأميركي.

ولعلّ ما يسجل للدبلوماسية والسياسة الخارجية العراقية خلال الأعوام الأربعة أو الخمسة المنصرمة نجاحها في إحداث حلحلة إيجابية في بعض ملفات المنطقة الشائكة، من قبيل ملف العلاقات الإيرانية-السعودية، إذ احتضنت بغداد عدداً من جولات الحوار بين الطرفين المتخاصمين، وساهمت مع مسقط في تقريب وجهات النظر وكسر العديد من الحواجز بين طهران والرياض. وكذلك فإن بغداد نجحت في مد خيوط التواصل بين دمشق وعواصم عربية، بعد أعوام من القطيعة والصدام، ولم تكن بشكل أو بآخر بعيدة عن ترتيبات الهدنة بين السعودية وحركة أنصار الله اليمنية (الحوثيين)، وهي-أي بغداد-عبر قنوات مختلفة، رسمية وغير رسمية، بذلت جهوداً ومساعي حثيثة-كما أشرنا آنفاً-من أجل الإسراع في إعادة إحياء الاتفاق النووي، انطلاقاً من رؤية مفادها، أن أي حلحلة لأزمات المنطقة، أو الأزمات الدولية التي تعدّ المنطقة أحد ميادينها وساحاتها، لا بد أن تكون لها انعكاسات إيجابية على مجمل الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية العراقية، لأن الجزء الأكبر مما مرّ ويمر به العراق هو في واقع الأمر نتاج لأزمات وأجندات وصراعات خارجية قبل أن تكون داخلية.

وتعود خلفيات الاهتمام العراقي بإبرام اتفاق إيراني-دولي حول برنامجها النووي إلى عام 2012 في عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، عندما استضافت ورعت بغداد مباحثات بين طهران ومجموعة خمس زائد واحد، من أجل تقريب المواقف والتأسيس لأجواء حوار إيجابي مثمر يفضي إلى نتائج ومخرجات عملية. وبالفعل، كان ذلك الاجتماع بداية لانخراط العراق في العمل الجاد للتوصل إلى اتفاق واقعي يرضي الفرقاء، ويساهم في تخفيض حدة التوتر في المنطقة، ومن ثم إخراجه من دوامة التصادم والاحتقان بين الخصوم الإقليميين والدوليين.

ومما لا شك فيه أن هناك تأثيراً متبادلاً على نطاق واسع وكبير بين الشأنين العراقي والإيراني، ذلك التأثير الذي فرضته عوامل جغرافية وتاريخية وسياسية وأمنية واقتصادية وثقافية ودينية، من الصعب بمكان-إن لم يكن مستحيلاً-تجاهلها والتغافل عنها مهما كانت الظروف والأحوال.

وحتى لا نذهب بعيداً إلى الوراء، فإن ما يمكن تأكيده هو أن إيران منذ سقوط نظام صدام في ربيع عام 2003، تعاطت بصورة إيجابية مع العراق، رغم التراكمات السلبية لمرحلة حرب الثمانية أعوام (1980-1988) بين الطرفين، فقد كانت في مقدمة الدول التي فعّلت ونشطت تمثيلها الدبلوماسي في بغداد، ووسعته لاحقاً عبر فتح قنصليات لها في المحافظات الأساسية في الجنوب والوسط والشمال، كالبصرة والنجف وكربلاء وأربيل والسليمانية، ودعمت العملية السياسية، رغم ملاحظاتها وتحفظاتها على الوجود والدور الأميركي السلبي فيها، وعززت علاقاتها الاقتصادية مع العراق، وقدمت له الإسناد والدعم الضروري في مجالات الطاقة والإعمار، والأهم من ذلك كله، ألقت بكل ثقلها إلى جانبه حينما اجتاح تنظيم "داعش" الإرهابي في صيف عام 2014 مدينة الموصل ومناطق ومدناً عراقية أخرى، وكاد أن يستبيح العاصمة بغداد والمدن الدينية لولا فتوى الجهاد الكفائي للمرجع الديني السيد علي السيستاني والدعم الإيراني.

وبقدر ما كانت إيران تحرص على استقرار العراق وأمنه وازدهاره، انطلاقاً من ثوابتها السياسية والدينية من جانب، ومصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية من جانب آخر، بقدر ما كان العراق يحرص على إنهاء حالة الخصام والعداء بين إيران ومحيطها العربي بالدرجة الأساس، وكذلك مع المجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، إدراكاً منه أن إنهاء ذلك الخصام والعداء يمثل مدخلاً مهماً ومفتاحاً رئيسياً من مفاتيح استقراره السياسي وازدهاره الاقتصادي وتماسكه الأمني.

وبما أن إعادة إحياء الاتفاق النووي، ستعود على إيران بمنافع ومكاسب سياسية واقتصادية كبيرة جداً، لعلّ أبرزها التخفيف من الضغوط والأزمات الاقتصادية التي ألقت بظلالها الثقيلة على الشارع الإيراني خلال الأعوام الخمسة الماضية، وتحريك عجلة الاقتصاد بوتيرة أسرع، وفتح آفاق جديدة له، لذا فإن العراق سوف يكون أحد أبرز الأطراف التي تستفيد من تفاهمات طهران مع واشنطن والأطراف الأخرى للاتفاق النووي، لأن ذلك من شأنه أن ينشط مجمل حركة التبادل التجاري، والتعاون الاقتصادي، وتعزيز المشاريع والخطط الاستثمارية، علماً أن حجم التبادل التجاري بين البلدين تجاوز الاثني عشر مليار دولار سنوياً، ويؤمل أن يصل في غضون خمسة أعوام إلى عشرين مليار دولار. فضلاً عن ذلك، فإن إعادة إحياء الاتفاق النووي، من شأنه أن يضمن تزويد إيران للعراق بكميات الغاز المطلوبة لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية.

وعلى الصعيد السياسي، فإن إعادة إحياء الاتفاق النووي، يعني نزع فتيل التوتر، وخفض مستويات التأزيم والاحتقان إلى حد كبير، ويتعزز ذلك، بالمصالحات والتسويات الإقليمية بين الفرقاء، كالتقارب السعودي -الإيراني، والتقارب الإماراتي-الإيراني، وترميم الجسور بين دمشق وخصومها في أنقرة والرياض وأبو ظبي. كل ذلك وغيره، لا بد أن ينعكس على عموم الواقع السياسي العراقي بتعقيداته وتشابكاته وتناقضاته وتنوّع أولوياته، وهو من زاوية أخرى، يعني إمكانية تحقيق المزيد من المكاسب الأمنية، التي تشكل مقدمات وأرضيات مهمة للاستقرار السياسي، والازدهار الاقتصادي، والسلم المجتمعي.

إن معرفة حقيقة القلق الإسرائيلي وطبيعته من العودة إلى الاتفاق النووي، أو من أي تفاهمات إيرانية-أميركية، وما يترتب عليها من مكاسب ومنافع لإيران، باعتبار أن إسرائيل تعدّ الأخيرة عدوّها الأخطر والأكبر، والعكس صحيح أيضاً، يفضي ذلك الفهم إلى الإقرار ببديهية ما يكسبه ويحققه أصدقاء إيران من العودة إلى الاتفاق، ولا شك أن العراق من أهم أصدقاء إيران وأبرز وحلفائها. وكثيراً ما ردّد ساسة وقادة أمنيون وعسكريون إسرائيليون خلال العامين المنصرمين بأن "التخلي عن اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية-التي بالرغم من عيوبها كانت ناجحة لصالح استراتيجية قسرية ضد إيران-فشلت بجميع المقاييس في تحقيق النتائج التي تنبأ بها بثقة أولئك المؤيدون لترامب".

ناهيك بأن وسائل إعلام إسرائيلية واسعة الانتشار، تنقل عن كبار القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين في تل أبيب، قولهم بخصوص التطورات الأخيرة بين واشنطن وطهران، " نحن خارج المداولات ولا يوجد هناك تنسيق مع إسرائيل، لكننا مطلعون على صورة الوضع. هذا تجميد للخطة النووية الإيرانية مقابل الإفراج عن أموال محتجزة. هذا لا ينسجم مع موقفنا، ونحن نعارض هذا الأمر. إسرائيل غير معنية بأي اتفاق لا يدفع نحو تفكيك القدرات الإيرانية كافة. اتفاق جيد ينبغي له أن يعيد إيران إلى الوراء بدلاً من تجميد الخطة أو تأجيلها قليلاً".

ولكن، في كل الأحوال، لا ينبغي لنا الاستغراق في التفاؤل كثيراً، كما لا يجوز الاستغراق في التشاؤم بغياب التفاهم أو الاتفاق، لأن ثوابت الفرقاء ومساراتهم ومنهجياتهم لن تلتقي وتتوافق كثيراً، وأي اتفاق مهما كانت مضامينه وحدوده وأبعاده لن يحوّل الخصوم إلى حلفاء، ولا العداء إلى أصدقاء، والعراق لن يكون خارج كل المعادلات بتفاعلاتها وتداعياتها المحتملة والممكنة.