ماذا يعني تغيير رئيس تحرير صحيفة؟


من السهولة بمكان أن يختار القارئ العربي أي صحيفة عربية ويرى كم مرة تغير فيها رئيس التحرير على مدار عشر سنوات، لكنه يستحيل عليه أن يجد تغييرا مهما طرأ على خطاب الصحيفة نفسها وتأثيرها على الناس! فكم نحتاج من رؤساء تحرير عرب لا يحملون اسم بول داكر؟
الصحافة العربية فشلت في كسب ثقة القراء
رئيس التحرير موظف حكومي

قد لا يعني شيئا مهما في صحافتنا العربية، فرئيس التحرير أشبه بموظف حكومي في الدول العربية إن لم يكن “شرطي فكر” وفق تعبير أحد الصحافيين الروّاد.

لكن مثل هذا السؤال امتلك أهميته القصوى في الصحافة البريطانية، ليقدّم لنا درسا سياسيا بشأن تأثير فليت ستريت على القرار الحكومي وتحديدا ما يتعلق اليوم ببريكست ومعضلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

لقد قادت صحيفة ديلي ميل البريطانية تحت قيادة رئيس التحرير السابق بول داكر، حملة إعلامية ممنهجة دعمت خلالها فكرة المغادرة ومنحت مساحة كبيرة للمتشككين في الاتحاد الأوروبي لكتابة الأعمدة التحليلية.

نحن نتحدث عن صحيفة مؤثرة ذات عدد كبير من القراء، إلى درجة وصف رئيس تحريرها السابق بول داكر بـ”أخطر رجل في بريطانيا” وكأننا نشير إلى رجل مافيا وليس إلى صحافي لا يمتلك غير الأفكار التي يقترحها، وفق مبدأ الصحافي لايقول أنا فعلت بل بكل تواضع يقول سمعت وشاهدت.

عندما استقال داكر من رئاسة تحرير الصحيفة الصيف الماضي بعد أكثر من ربع قرن على توليه المنصب، حملت استقالته حشدا من الأسئلة المثيرة عن قوة الصحافة، وخشية السياسيين منها، الفكرة المتداولة عن وهن الصحافة لم تعد صالحة ونحن نتحدث عن بول داكر وعلاقته ببريكست.

فقد أسال حدث بريكست حبرا بشأن الدور الذي يمكن أن يلعبه صحافي بارز ورئيس تحرير لامع في تقرير مصير بلد وفي التأثير على مزاج الرأي العام. أو بتعبير الكاتب الأميركي مارك توين “هناك قوانين لحماية حرية التعبير في الصحف، لكن لا شيء من هذه القوانين يحمي القراء من الصحف”.

شغل داكر المنصب لمدة 26 عاما، وهي المدة الأطول لرئيس تحرير على رأس مؤسسة صحافية، فأن يستمر أو يتوقف عن ممارسة مهامه، فذلك أمر قد لا يكون تفصيلا مهنيا يرتبط بشخصه وبالمؤسسة والعاملين فيها، وربما بالوسط الصحافي عامة، بل إن المناسبة -وفق آلان روسبريدجر، رئيس التحرير السابق لصحيفة الغارديان- لها أبعاد قد تصل إلى تأمل وقع ذلك على مآلات البريكست في المستقبل. لافتا النظر إلى الأثر الذي يمكن أن يحدثه صحافي في تقرير مصير أمة بحجم المملكة المتحدة.

يدرك روسبريدجر بحكم خبرته الصحافية أن داكر كان محركا رئيسيا لاتجاهات الحياة السياسية البريطانية بشكل عام، إذ تمتع بتأثير لم يصل إليه من قبل صحافي على الإطلاق.

كان رئيس التحرير السابق لديلي ميل من بين من زرعوا فيروس الخوف من الهجرة والأجانب في العقل الجمعي للمجتمع البريطاني قبل الاستفتاء وبعده. وخلال شهر كامل أعقب الاستفتاء، كانت قضية الهجرة هي “طبول الحرب التي لم يتوقف داكر عن الضرب عليها” ويمكن اكتشاف ذلك بسهولة من مانشيتات الصحيفة آنذاك.

مهما يكن من أمر استقال داكر وترك شيئا من الغيرة في نفوس الزملاء! مما أنجزه وبالسمعة التي التصقت به خلال سنين عمله قبطانا لواحدة من أهم الصحف البريطانية. حتى وصلت الغيرة إلى أعضاء في البرلمان البريطاني عندما اعتبروا الديلي ميل قد صنعت من نفسها جزءاً من الآلة الحكومية.

ومنذ الصيف الماضي نتحدث عن رئيس تحرير جديد لصحيفة ديلي ميل هو جيوردي غريغ، وكما يبدو يطمح إلى صحيفة جديدة تقطع مع عقود داكر، على الرغم من استعادة بعض مصطلحات لغته في الكتابة، عندما وصفت الذين يحاولون الإطاحة بتيريزا ماي بـ”المخربين المخادعين” وهو عنوان مقتبس من أحد التقارير التي كتبها داكر في العام الماضي.

لم يخف غريغ رغبته في جعل عناوين الديلي ميل تبدو أكثر ترحيباً. يقول أحد كبار صحافيي الديلي ميل “يحاول غريغ إزالة السموم من الصحيفة وأن يخرج أفضل ما فيها”.

ويرى ديفيد يلاند، رئيس التحرير السابق لصحيفة ذا صن، الصحيفة الأكثر مبيعاً في المملكة المتحدة “هناك لحظات يمكن فيها للصحف أن تحدث تغييراً عميقاً في الحوار الوطني. وهذا قد يكون أحدها” فعندما كان داكر رئيساً للتحرير، كانت الصحيفة تثير المتاعب وكانت تحدث ضجيجا في المؤسسة.

واليوم يلقى رئيس التحرير الجديد دعما من غالبية كادر الصحيفة بكامل قوتها وأن غرفة الأخبار بأكملها تدعمه. وإلى الآن يقف غريغ داعماً لتيريزا ماي، ولكن لم يتضح بعد ما إذا كان سيتبع نصيحة داكر إذا كان خيار خروج بريطانيا المفضل من رئيسة الوزراء سيواجه المزيد من المشاكل.

ومع ذلك، يستمر التحول في صحيفة ديلي ميل بإثارة العديد من الموجات.

يقول هنري بيلينجهام، العضو البارز في حزب المحافظين وأحد مؤيدي مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي “لعبت الجريدة بلا شك دوراً هاماً في دائرة منطقة نورفولك الانتخابية، حيث كانت غالبية الناخبين يدعمون اتفاق ماي للبريكست”. ويرى أن أفكار الصحيفة كانت السبب الرئيسي في توجيه أفكارهم.

وأخيرا كم يبدو هذا الدرس مفيدا لنا في العالم العربي كصحافيين وقراء وحكومات إن كانت تؤمن بأهمية الصحافة!

من السهولة بمكان أن يختار القارئ العربي أي صحيفة عربية كنموذج ويرى كم مرة تغير فيها رئيس التحرير على مدار عشر سنوات، لكنه يستحيل عليه أن يجد تغييرا مهما طرأ على خطاب الصحيفة نفسها وتأثيرها على الناس! فكم نحتاج من رؤساء تحرير عرب لا يحملون اسم بول داكر؟