ما بعد غزة أم ما بعد حماس؟

ظلمت حماس نفسها وغزة معا حين سمحت لإسرائيل بأن تصل إلى أعلى مراحل جنونها.

من المستبعد أن تكون حماس قد فكرت في إحداث خرق للمعادلات الجامدة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بحيث تدفع إسرائيل إلى التخلي عن سياستها القائمة على غض الطرف عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على أرضهم. صحيح أن ما حدث قبل تسعة أشهر كان أشبه بالزلزال من حيث تأثيره على الداخل الإسرائيلي غير أن نتائج ذلك الزلزال كانت كارثية على أهل غزة. وصحيح أيضا أن ذلك الجمود الذي فرضته إسرائيل لم يعد مقبولا بالنسبة للمجتمع الدولي، غير أن الجزء المرئي من ذلك التحول لا يصب في مصلحة حماس، من حيث إمكانية استمرارها طرفا مقاوما جاهزا للقبض على القضية باعتباره الجهة التي يمكنها أن تمثل الجانب الفلسطيني في أية مفاوضات مستقبلية، كما يأمل قياديو حماس.

لقد بات معلنا أن وقف العدوان الإسرائيلي لا يرتبط بتحرير الأسرى والمخطوفين من الجانبين بقدر ارتباطه بمحو أي أثر لحركة حماس من الصورة. كل المفاوضات غير المباشرة التي تجريها الحركة الفلسطينية ليس الهدف منها العودة إلى مرحلة ما قبل السابع من أكتوبر وكأن شيئا لم يكن، وهو ما تنتظره حماس لتعلن عن انتصارها بغض النظر عن الخراب الذي يحيط بها من كل جانب. ما لا نعرفه من جهة الحركة قد يتعلق بالخروج الآمن. وهو ما لن يكون مضمونا في ظل إصرار نتنياهو على الاستمرار في الانتقام إلى ما لا نهاية. تبحث حماس عن ضمانات قد لا تعثر عليها فهي لا تثق بأي طرف وهي على حق في ذلك. فالولايات المتحدة وهي التي تلعب دورا مهما في الوساطة بين الجانبين المتحاربين هي طرف غير محايد. تصريحات كل المسؤولين الأميركان المعنيين بالأمر تنص وبالحرف الواحد على ضرورة إزالة كل أثر لحماس من على مائدة الصراع، سلما كان أم حربا. وهو ما صارت حماس على بينة منه بالرغم من أنها لا تزال تقاوم وإن كان الوقت لا يجري لصالحها.

لم تسرق حماس الأضواء من أحد حين صارت الخبر رقم واحد في وسائل الإعلام العالمية. فعلت ما لم يكن متوقعا أن يفعله أي طرف فلسطيني في ظل إحباط عام، لم يكن الفلسطينيون مسؤولين عنه. فلأن إسرائيل دولة حرب فإن كل العروض العربية لتي قُدمت لها عبر السنوات الماضية وبضغط مباشر من الولايات المتحدة لم تنفع في دفعها إلى تغيير سياستها المتشددة التي أثبتت فشلها. فكم ثمانين سنة أخرى تحتاج إسرائيل لكي تقتنع أن شعبا أغتصبت أرضه وشردته ومارست في حقه شتى صنوف العنف والاضطهاد والتنكيل لن يتخلى عن حقوقه التاريخية بعد أن تمكن من الحفاظ على هويته، جيلا بعد جيل. لقد صنعت إسرائيل بسبب انغلاقها على العقيدة الصهيونية بكل مبادئها العنصرية حالة إحباط عام لا يمكن أن يقاومها أي أمل.

ما حدث في السابع من أكتوبر كان في جزء منه صناعة إسرائيلية. لقد قيل يومها دفاعا عن مغامرة حماس "وهل يملك الفلسطينيون خيارا آخر؟" لقد أحرقت إسرائيل كل الأوراق. حتى فلسطينيو السلطة وهم مَن وقع على إتفاقية أوسلو انكفئوا منذ سنوات طويلة على فشلهم وصار محمود عباس يضرب كفا بكف وهو يقول "أعطوني حلا لأجربه" في إشارة منه لليأس الكامل الذي فرضه الجانب الآخر. من ذلك الفراغ انطلقت حماس غير أن مشكلتها تكمن في المحتوى العقائدي الذي تستند إليه. ليست حماس تنظيما يمكن وضعه في سياق النضال الوطني الفلسطيني، بل هي حركة مقاومة إسلامية لا تخفي ارتباطها بإيران وهو ما يُخرجها من نطاق القضية الفلسطينية لتكون جزءا من صراع عالمي لا تشكل فيه غزة إلا محطة مؤقتة.

ظلمت حماس نفسها وغزة معا حين سمحت لإسرائيل بأن تصل إلى أعلى مراحل جنونها. وها هي اليوم تواجه مصيرها. إن حالفها الحظ في ظل مناخ دولي معاد لها أن تخرج من غزة بطريقة آمنة ستكون محظوظة أما الخيار الآخر فإن نتنياهو يملك مفاتيحه ولن يمنعه أحد من الاستمرار في تنفيذ مجازره، من غير أن يكون معنيا بمصير مَن بقي حيا من المخطوفين. لقد أمسك بفرصته التي يسجل من خلالها مكافأة شعبه بأكثر قدر من القتلى العرب وهو ما سيضع أسمه خالدا إلى جانب الجزارين الكبار الذين قاموا بأعمال جليلة من أجل بقاء الدولة العبرية.