ما بين أميركا وإسرائيل

ما تعمل عليه السياسة الأميركية هو تهذيب وترويض اندفاعة اليمين الإسرائيلي كيلا يتسبب في تحويل الصراع داخل فلسطين إلى صراع إقليمي يمكن أن يخرج عن السيطرة.

تغطي السحب الكثيفة التي تأتي بها رياح الدعم والتأييد الكبيرين من جانب الولايات المتحدة لإسرائيل حقيقة الإختلاف بين استراتيجية الولايات المتحدة في هذه المنطقة والإستراتيجية التي يعمل عليها تيار اليمين الحاكم في اسرائيل.

إدراك ذلك الاختلاف مهم في وضع أية سياسية عربية في مواجهة المرحلة الخطيرة الراهنة.

بالنسبة لليمين الاسرائيلي فاستراتيجيته شبه المعلنة هي تصفية القضية الفلسطينية عبر محورين منفصلين: دمج اسرائيل في المنطقة وبناء علاقات طبيعية مع الدول العربية من ناحية، وإجراء تغييرات ديمغرافية في الضفة وقطاع غزة تنهي أي احتمال لكيان فلسطيني ضمن فلسطين التاريخية وتعيد التوازن الذي فقد لصالح غالبية يهودية مقابل أقلية عربية قابلة للاندماج والذوبان بالمجتمع الاسرائيلي بصورة كاملة.

ويبدو اليمين الاسرائيلي متعجلا في الوصول للهدف السابق طالما أن الظروف الدولية والاقليمية لا تعيق السير إلى الأمام مثلما كان الحال عليه حتى السابع من تشرين الثاني/أكتوبر الحالي.

أما الولايات المتحدة فاستراتيجيتها للمنطقة جزء من استراتيجية عالمية تشمل المواجهة مع الصين وروسيا والحد من التمدد الإيراني، والإبقاء على الهيمنة السياسية على أوربة، والتحكم بإمدادات الطاقة، وإدارة الصراعات المحلية بحيث لا تخرج عن نطاق مصلحة الهيمنة الأميركية العالمية.

السؤال هنا: إلى أي حد يمكن للاستراتيجية الأميركية في المنطقة تقبل واحتواء الإستراتيجية الإسرائيلية؟ وأين يمكن أن تتعارض الإستراتيجيتان؟

ما يهم الإستراتيجية الأميركية هو بقاء درجة من الإستقرار في المنطقة، إذ لا مانع من وجود صراعات محدودة، بل يمكن أن يكون وجودها مفيدا إذا أمكن إدارة تلك الصراعات لاستهلاك طاقة شعوب المنطقة وإبقائها بعيدة عن الخروج عن نطاق الهيمنة.

تلعب اسرائيل دورا مركزيا كوكيل عن القوة الأميركية حيثما يقتضي الموقف، لكن يمكن ملاحظة تآكل ذلك الدور بسبب صعود قوى اقليمية أخرى كتركيا وايران والسعودية.

العائق الرئيسي أمام تمدد القوة الإسرائيلية إضافة لصعود القوى الإقليمية الأخرى هو بقاء القضية الفلسطينية وتفجر الصراع العربي - الاسرائيلي داخل فلسطين التاريخية بصورة خاصة وخارجها بدرجة أقل حزب الله واسرائيل.

ما تعمل عليه السياسة الأميركية هو تهذيب وترويض اندفاعة اليمين الإسرائيلي كيلا يتسبب في تحويل الصراع داخل فلسطين إلى صراع إقليمي يمكن أن يخرج عن السيطرة.

في المواجهة الحالية ليس مستبعدا وجود توافق إسرائيلي - أميركي على تهجير الفلسطينيين من غزة، لكن ذلك يرتبط بمدى تقبل الأطراف العربية للتهجير وموافقتها على تمويل إعادة إسكان سكان غزة في سيناء وفق ما أصبح معلنا من المشروع.

وبالطبع فهو يرتبط بسير معركة غزة وكيفية الإنتهاء منها واحتواء ردود الأفعال المتعددة هنا وهناك.

أين إذن حدود الإتفاق /الاختلاف بين الإستراتيجية الأميركية والإسرائيلية؟

ربما يمكن العثور عليها في احتواء الصدام بين القوة الإسرائيلية والقوة الإيرانية بحيث لا يتحول لصراع مفتوح ومتفجر، أيضا في إبقاء بعض الخيوط بيد السياسة الأميركية من خلال علاقة مع بقية الدول الإقليمية والعربية فالولايات المتحدة لاتقبل في نهاية المطاف دورا أقل من أن تكون لها اليد العليا في المنطقة وتلك مهمة لا يمكن أن تسند لإسرائيل وحدها.

يمكن فهم التأييد المطلق لإسرائيل حاليا كمحاولة لرأب الصدع الذي أصاب هيبة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وشكل انتكاسة لا يمكن الإنتقاص من حجمها وتأثيرها، بالتالي فهو لا يعني بالضرورة تأييد استراتيجية اليمين الإسرائيلي، وفي المدى الأبعد ربما يتم استخدام الفشل العسكري الإسرائيلي كما الدعم الأميركي للضغط على الحكومة الإسرائيلية لتجميد خططها الإستيطانية وسلوكها العدواني تجاه الفلسطينيين في الضفة والقطاع لاسيما إذا ترافق مع استعادة المعارضة الإسرائيلية المبادرة وإسقاط حكومة نتنياهو المتطرفة.

ومن المناسب هنا التذكير أن السياسة الرسمية الأميركية ومن ورائها الاتحاد الأوربي مازالت تتبنى حل الدولتين بما يتعارض على طول الخط مع نهج اليمين الحاكم في اسرائيل

لعل ما هو مطلوب من أية سياسة عربية تتصف بشيء من بعد النظر أن لا تتسبب في حشد كل الغرب وراء الولايات المتحدة في حين يتم دفع الولايات المتحدة لتلتحم مع الإستراتيجية الإسرائيلية. وعلى النقيض من ذلك فمن الضروري التركيز على ما يفصل بين الإستراتيجية الأميركية والإسرائيلية.

ويعني ذلك وجود ديبلوماسية مرنة تجمع بين استخدام أدوات الضغط المتاحة على الغرب، وإبقاء الباب مفتوحا أمام التراجع عن سياسة الدعم الأعمى والمطلق لحكومة إسرائيل اليمينية.

بغير ذلك سيجد الموقف العربي الضعيف أصلا نفسه محشورا في الزاوية، ويكون لدى اسرائيل أفضل وقت لتضع استراتيجيتها موضع التنفيذ لتصبح بحرفيتها جزءا من الإستراتيجية الأميركية لمرحلة قادمة.