ما هذه الـ'تونس' التي تعاقب شعبها

تونس اليوم على حافة انفجار شعبي. ما من شيء يشير إلى قدرة الطبقة الحاكمة على وضع مشاريع اقتصادية لانقاذ الشعب من الفقر. أفراد تلك الطبقة مشغولون بحروبهم. وهي حروب تغطي على شعور الشعب بالاهانة ولكنها قد تؤدي بتونس إلى هلاكها.
زعماء مؤسسات الحكم تحولوا إلى ثلاثة ديوك متناحرة يكيد الواحد منهم إلى الآخرين
الدولة صارت أضعف من أن تضبط منتسبي مؤسساتها وبالأخص الأمنية
ما لم تخرج تونس من دائرة حركة النهضة فإنها ستكون غريبة عن شعبها

مرت العشر سنوات الأولى من عمر ما سُمي بـ"ثورة الياسمين" والنتيجة أقل من صفر بل أن الأوضاع كما يُشاع يمكن أن تنفجر في أية لحظة. وما الاحتجاجات التي تشتعل بين حين وآخر في مختلف المدن التونسية إلا إشارات لفوضى قادمة ستكون عنوانا للقطيعة النهائية بين الشعب وكل مؤسسات الحكم ولن تنفع شعبية حركة النهضة في ردم تلك الهوة. بل قد تكون تلك الشعبية سببا مقنعا لليأس التام. 
عشر سنوات من التلكؤ والتعثر والفشل الحكومي انتهت بأزمة سياسية غير مسبوقة ونادرة الحدوث في التاريخ السياسي. زعماء مؤسسات الحكم تحولوا إلى ثلاثة ديوك متناحرة، يكيد الواحد منهم إلى الآخرين في محاولة منه لإسقاطهما والتخلص منهما معا. اما الدولة فإنها تدير نفسها بنفسها. عجلة تدور بكل عيوبها وعثراتها وفسادها وتقاعسها وكسل القائمين عليها وضجرهم من الاستمرار في الرهان على دولة تُركت مهملة لسنوات طويلة هي عمر نظام زين العابدين بن علي ثم انتقلت إلى الحكام الجدد باعتبارها إرثا لا أحد يرغب في أن يتورط في محاولة تجديده. 
راشد الغنوشي ليس جديدا على اللعبة فهو حكم تونس من وراء ستار سنوات عديدة وها هو اليوم سيد السلطة التشريعية الذي يسعى إلى أن يُعلن نفسه سيدا على البلاد. الجديدان المضطربان والقلقان والمنهكان هما قيس سعيد وهشام المشيشي. الأول جاء إلى قصر قرطاج رئيسا للجمهورية بالصدفة لأنه ليس حزبيا ولم يكن جزءا من التركيبة السياسية أما الثاني فقد أصبح رئيسا للوزراء لأن سعيد فرضه خيارا وحيدا فإذا به ينقلب عليه مفضلا التحالف مع الغنوشي المعروف بثعلبيته التي نجح من خلالها في اقناع أتباع حركة النهضة بأنه رجل المعرفة، القائد المتواضع، المتنور الذي يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وكلها صفات ليس له منها شيء. 
الحرب على الجبهة السياسية هي حدث خارجي يمكن التفرج عليه من غير تعليق مقارنة بالحرب الاقتصادية التي صارت تطحن الطبقتين المتوسطة والفقيرة وصارت تلقي بأبنائهما خارج حدود منطقة التداول الاجتماعي المقبول. لقد انهارت البنية الاجتماعية بعد أن نزح الكثير من أبناء الطبقة المتوسطة إلى أقاليم الطبقة الفقيرة التي استسلمت للعوز التام حين صارت الدولة لا تكترث للمشاريع الزراعية. لا يصدق أحد أن بلد الزيتون صار عاجزا عن المنافسة بزيتونه في السوق العالمية لا لرداءة المنتوج بل لأن الفوضى التي ضربت كل نواحي الحياة أطاحت بالشجرة التي هي رمز البلاد. 
ولكن الأسوأ يكمن في أن الدولة صارت أضعف من أن تضبط منتسبي مؤسساتها وبالأخص الأمنية. ما جرى قبل أيام حين قام أفراد الشرطة بتعرية طفل وسحله في الشارع من أجل أن يلقنوا المجتمع الغاضب درسا عنيفا انما يؤكد أن هناك خللا في العلاقة بين الدولة ومنتسبيها الذين صاروا يطبقون القانون بطرق غير قانونية. وهو ما يمكن أن يورطهم في ارتكاب جرائم لم يكونوا في الوضع العادي ليقدموا على ارتكابها. غير أن حالة التسيب التي تعيشها الدولة صارت تعميهم عن رؤية الواجب الذي يفرض عليهم الالتزام بالقانون وهم يسعون إلى تطبيقه. ولهذا السبب يمكننا القول أن المجتمع التونسي مهدد بالكثير من الممارسات المخزية والمعيبة التي ستقدم عليها المؤسسة الأمنية لو أن الأوضاع استمرت على ما هي عليه الآن. 
لقد زار رئيس الجمهورية المنطقة التي وقع فيها ذلك الاعتداء وأدان رجال الشرطة الذين قاموا بفعلتهم المخزية. ما معنى ذلك؟ رئيس الوزراء هو وزير الداخلية بالوكالة وهو المسؤول المباشر عن الأشخاص الذين ارتكبوا الجريمة. اما الغنوشي فإنه يكتفي بالنظر عن بعد. غير أن الحقيقة تؤكد أن الفوضى التي تعيشها تونس هي صناعة غنوشية مئة بالمئة. لو لم يكن هناك غنوشي لما التبس الامر على رئيس الوزراء وصار صعبا عليه أن يعين وزيرا للداخلية. 
تونس اليوم على حافة انفجار شعبي. ما من شيء يشير إلى قدرة الطبقة الحاكمة على وضع مشاريع اقتصادية لانقاذ الشعب من الفقر. أفراد تلك الطبقة مشغولون بحروبهم. وهي حروب تغطي على شعور الشعب بالاهانة والذل. ولكنها حروب قد تؤدي بتونس إلى هلاكها. لقد سئم الشعب من الطبقة السياسية التي لم تخرج عن دائرة حركة النهضة التي احتكرت الحكم منذ سقوط نظام بن علي. 
ما لم تخرج تونس من دائرة حركة النهضة فإنها ستكون غريبة عن شعبها الذي سيجد أن عليه أن يطوي بثورة جديدة عشر سنوات كانت هي الأكثر رثاثة في تاريخه السياسي المعاصر.