ما وراء معركة بلدية إسطنبول

انتخابات اسطنبول دروس كبيرة في فن الغطرسة السياسية.

عندما قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إعادة إنتخابات بلدية إسطنبول في مايو الماضي بعد أن خسرها مرشحه، أخبرني صحفي تركي مقيم في القاهرة "إنها بداية النهاية لحزب العدالة والتنمية في الحكم". وقتها تشككت في كلام الرجل، وقلت له لماذا لا تعتبرها نوعا من التصميم على عدم تقبل الهزيمة واستمرار الهيمنة الكاملة؟

تشعب الحوار بيننا، وكانت خلاصته أن هناك استنفارا بطيئا سوف تتبلور ملامحه قريبا لردع ومعاقبة أردوغان. وثمة رغبة عارمة في إنهاء حكمه عبر مباراة تتكون من عدة أشواط. انطلق شوطها الأول من إسطنبول.

أكد الصحفي التركي أن لديه قناعة بوجود جهات مهمة في الدولة، بينها وحدات في الجيش، لم تعد تحتمل تجاوزات أردوغان وتتمنى التخلص منه، وسوف تتركه يسقط من خلال أخطائه، بعد أن أصبحت إزاحته بالقوة عملية صعبة، في ظل سيطرته على مفاصل كثيرة في المؤسسة العسكرية وغيرها من الدوائر الحيوية.

ولم يستبعد أن تكون مجاراته في توسيع نطاق قبضته الحديدية والموافقة على إعادة انتخابات إسطنبول بمنزلة "فخ للتخلص السياسي منه"، في إشارة إلى تمهيد الطريق لتشجيع الأحزاب على مواصلة التحدي، ومنح المواطنين المعارضين جرعة ثقة لتجريده من عوامل القوة في المعاقل التي يحظى فيها بثقل سياسي كبير.

اعتبرت كلمة الفخ وقتها من التمني للصحفي التركي أكثر منها قراءة دقيقة للحدث. ومرت الأيام وسقط بن علي يلدريم مرشح حزب العدالة والتنمية، أمام منافسه أكرم إمام أوغلو مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول للمرة الثانية الأحد الماضي، ولقي هزيمة قاسية بفارق 800 ألف صوت، بينما كان الفارق في جولة نهاية مارس الماضي لا يتجاوز 13 ألف صوت.

قدمت هذه الانتخابات دروسا كبيرة في فن الغطرسة السياسية، وكشفت حجم المخاطر التي ينطوي عليها هذا السلوك، وما يؤدي إليه من مشكلات تفجر أزمات متفاقمة. فالرئيس التركي لم يتقبل هزيمة بفارق بسيط في إسطنبول، لأن هذه المدينة تمثل صورة مصغرة لما سيجري في تركيا بأكملها. ودافع عنها بشراسة مخترقا القوانين ورافضا الاستسلام، حتى لو تسبب في تشويه الوجه الذي يتفاخر به عندما يزعم أنه الديمقراطي الوحيد في المنطقة، لكن عندما يخص الأمر حساباته السياسية يظهر بجلاء وجهه الديكتاتوري.

جاءت أيضا السخونة التي طغت على معركة إسطنبول من التعامل مع المدينة كأهم معاقل حزب العدالة والتنمية في البلاد، منها بدأ أردوغان قصة صعوده السياسي، ويقطنها نحو 25 بالمئة من عدد سكان تركيا البالغ 82 مليون نسمة، وستخلف الصفعة التي تلقاها تداعيات ربما تؤثر على نظام حكمه وتصوراته لطبيعة الفترة المقبلة، فإما أن تكبح جماحه، وهو احتمال ضعيف، أو تطلق عقاله ويمعن في التنكيل بالمعارضين. وسوف يدفعه التضخم المعنوي الذي أصابه إلى اللجوء للطريق الثاني.

وجه الناخبون لطمة قاسية لكل من فرحوا بالإعادة واعتقدوا أن الفوز مضمون فيها، وضاعفوا من جراحهم السياسية، وباتت الهزيمة تتجاوز حدود المنافسة على رئاسة بلدية كبيرة، وحملت اسقاطات متنوعة على نظام الحكم في تركيا، ولن يمكنه الفوز الكبير من التشكيك في نتائجها هذه المرة. فقد كان أردوغان يستعد لوضع سيف قضائي جديد على رقبة إمام أوغلو لردعه مرة ثانية.

أكدت الهزيمة إصابة زعيم حزب العدالة والتنمية بالإعياء السياسي، وأن تقديراته الداخلية أصابها العطب، ولم يعد يحسن قراءة ما يدور في بلاده من تحولات مكمونة، لأن الحملة التي جرى شنها على المرشح المعارض جاءت بنتيجة عكسية، وكأن جزءا من التصويت جاء احتجاجا على تغول أردوغان، وردا قويا على تصميمه كسب المعركة بأي وسيلة، باعتبارها محكا لنفوذه، بينما لو تركها وقبل بالهزيمة في الجولة الأولى لكانت الخسارة أخف وطأة.

أمعن الرئيس التركي في العداوة لمعارضيه، فجاءت الهزيمة بما يتجاوز حدود سقوط مرشح للنظام، وقدم لخصومه هدية تجعلهم يلتفون حول إمام أوغلو حاليا ليوجهوا مجموعة من الضربات السياسية في المستقبل تتخطى حدود بلدية إسطنبول، حيث شملت قائمة الخصوم فئة من داخل حزب أردوغان لم تعد تتحمل تصوراته وممارساته ويمكن أن تغرق سفينته.

لاحت في الأفق خلال الفترة الماضية علامات انقسام في صفوف حزب العدالة والتنمية، ربما تقود إلى تكوين حزب جديد من رحمه، فلم يعد الرئيس السابق عبدالله غول مرتاحا لكثير من تصرفات أردوغان، وبدأ رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو يعلن امتعاضه من توجهاته. وأخذت تتراجع مؤشرات التقدم الاقتصادي الذي حدث، على وقع طموحات الرئيس التركي الخارجية وانخراطه في مناوشات إيديولوجية وحروب إقليمية لا طائل منها.

تأتي هزيمة أردوغان في وقت بلغت فيه علاقاته مع الإدارة الأميركية حدا مؤسفا، ووصلت إلى حد التلويح بمزيد من العقوبات الاقتصادية على بلاده، خاصة إذا مضى في صفقة شراء طائرات إس 400 الروسية. كما لم يعد الرجل وجها مقبولا لدى عديد من الدوائر الغربية. وتدهورت صورته في المنطقة جراء دسه أنفه في كثير من القضايا الإقليمية، وحرصه على المتاجرة الفجة ببعض التطورات السياسية.

كل من تابع تعليقاته حول وفاة الرئيس المعزول محمد مرسي، شعروا أنه يسعى لتوظيفها لمصالحه الشخصية وموجهة للداخل التركي، وحمل تحريضه المجتمع الدولي على مصر رسالة تتعلق بانتخابات بلدية إسطنبول أكثر منه رغبة في مؤازرة جماعة الإخوان والانتصار السياسي لها، لأن عينيه لم تبارحا مراقبة الناخبين الذين بدأوا السير في طريق بعيد عنه.

نجحت السياسة المتأنية التي يتبعها الرئيس عبدالفتاح السيسي في التعامل مع أردوغان، وأثمرت جملة من الأهداف الصعبة في مرمى أنقرة، وأجهضت الدبلوماسية المصرية خططه في دعم المتطرفين والإرهابيين، وكشفت تحركاته في ليبيا، وحجمت طموحاته في احتكار غاز شرق المتوسط. وإذا اعتبرنا أن المرشح إمام أوغلو الفائز في انتخابات إسطنبول هو رجل الرئيس السيسي، بحسب إشارة أردوغان، يكون الرئيس التركي تلقى هزيمة في أهم معاقله من دون إطلاق القاهرة قذيفة واحدة.