متى تأخذ ايران علما بالتغيير

يُفترض ان تكون ايران استوعبت التغيير الاميركي. ربّما ستكون هناك حاجة الى مواجهة جديدة كي يكون هذا الاستيعاب للتغيير نهائيا.

للمرّة الاولى تضطر ايران الى المواجهة العسكرية المباشرة مع الولايات المتحدة وان لم يكن ذلك في أراضيها، بل في العراق الذي تعتبره "الجمهورية الإسلامية" مجرّد "ساحة" على غرار ما هو عليه لبنان.

هل يعني ذلك ان ايران باشرت مغامرة سترتد عليها عاجلا ام آجلا بسبب الخلل بالتوازن العسكري بينها وبين اميركا... ام كلّ ما في الامر ان المطلوب انقاذ ماء الوجه للنظام الذي ادّعى قتل ثمانين اميركيا بينما الحقيقة انّه لم يقتل أحدا؟ هناك بالفعل جهل ايراني بما هي الولايات المتحدة حيث يستحيل إخفاء هوية أي عسكري، مهما كانت رتبته، يقتل في مكان ما من هذا العالم. هذه بديهيات لا يبدو ان ايران على استعداد للاعتراف بها معتقدة انّ هناك من سيصدّق أي دعاية تطلقها وسائل الاعلام التابعة لها عن الخسائر البشرية التي تدّعي بانها الحقتها بالاميركيين!

في حال بقيت الامور في حدود الردّ الايراني الفاشل في العراق، ستضطر ايران الى التفكير في كيفية الخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه بعيدا عن التصعيد والكلام الكبير الذي لا معنى له. فالشعارات تبقى شعارات، فيما المطلوب في الواقع التعاطي مع مشكلة كبيرة اسمها العقوبات الاميركية. كشفت العقوبات هشاشة نظام اعتاد على الابتزاز وعلى خفة أميركية في التعاطي معه، منذ تشرين الثاني – نوفمبر 1979، اي منذ احتجز 52 دبلوماسيا اميركيا كانوا يعملون في سفارة بلدهم في طهران لمدّة 444 يوما. في السنة 2020، حددت إدارة دونالد ترامب 52 هدفا داخل الأراضي الايرانية تؤكد انها مستعدة لقصفها في حال التعرّض لعسكريين او مواطنين اميركيين او أقدمت ايران على عمل ارعن آخر.

جرت العادة في الماضي ان تلجأ الى ايران الى استخدام أداة من ادواتها او التلطي خلفها في كلّ مرة ترتكب عملا إرهابيا. فهي استخدمت الحوثيين لاطلاق صواريخ في اتجاه الأراضي السعودية ثم استخدمت الحوثيين مجدّدا عندما اعلنوا مسؤوليتهم عن صواريخ اطلقت من الأراضي الايرانية في اتجاه منشآت لـ"أرامكو" في المملكة في أيلول – سبتمبر الماضي.

فهمت ايران الرسالة الأميركية التي تنطوي عليها عملية تصفية قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" وانعكاسات ذلك على غير صعيد، بما في ذلك الداخل الايراني وخلافة "المرشد" علي خامنئي الذي كان سليماني احد اقرب الناس اليه والى عقله وتوجهاته. كان عليها انقاذ ما تبقّى للنظام من هيبة بنفسها. لجأت الى قصف قاعدتين فيهما جنود اميركيون، الاولى عين الأسد غرب العراق والثانية قرب أربيل في كردستان العراق.

فهمت ايران خصوصا انّ هناك إدارة على استعداد للتعاطي معها بطريقة مختلفة، أي باللغة التي تفهمها، وهي لغة الاغتيالات. لا داعي الى تعداد عدد الذين تخلصت منهم ايران بطريقة او باخرى مستخدمة في كلّ الأحيان ادواتها في المنطقة. تكفي لائحة اللبنانيين الذين تعرضوا للتصفية بمجرّد انّهم وقفوا عقبة على طريق وضع يدها على البلد. على رأس هؤلاء يأتي رفيق الحريري الذي يعاني لبنان كلّ يوم اكثر بسبب غيابه.

استطاعت اميركا التخلّص من أسامة بن لادن في عهد باراك اوباما. كان بن لادن زعيم تنظيم "القاعدة" الارهابي الذي يقف غزوتي نيويورك وواشنطن في العام 2001. كانت تصفية بن لادن في باكستان العمل المفيد الوحيد الذي قام به أوباما على صعيد السياسة الخارجية في عهده الذي استمرّ ثماني سنوات. بعد ذلك تخلص دونالد ترامب من أبو بكر البغدادي زعيم "داعش". لكنّ كلّ ذلك لا يعني شيئا مقارنة مع تصفية قاسم سليماني الذي كان الى جانبه احد رجاله العراقيين أبو مهدي المهندس نائب رئيس الميليشيات المذهبية المنضوية تحت ما يسمّى "الحشد الشعبي".

يُفترض ان تكون ايران استوعبت التغيير الاميركي. ربّما ستكون هناك حاجة الى مواجهة جديدة كي يكون هذا الاستيعاب للتغيير نهائيا، ذلك انّ الذي حصل يوم الثاني من كانون الثاني – يناير الجاري بعيد وصول قاسم سليماني الى مطار بغداد وخروجه منه يظلّ حدثا كبيرا جدا. فما سقط لم يكن مجرّد قائد عسكري إيراني. ما سقط كان رمز المشروع التوسّعي الايراني الذي كانت له انطلاقة جديدة من العراق وفّرتها إدارة جورج بوش الابن لـ"الجمهورية الإسلامية" التي أوصلت قادة الميليشيات التابعة لها الى بغداد على دبّابة أميركية في العام 2003.

من الصعب قبول ايران بالعيش في ظلّ العقوبات الاميركية من جهة وفي ظلْ إدارة تمتلك رغبة في التعاطي معها يوما عن طريق الردّ عليها داخل الأراضي الايرانية من جهة اخرى. من هذا المنطلق يصحّ طرح سؤال عن امكان تعايش "الجمهورية الإسلامية"، في حال لم تتغيّر، مع إدارة دونالد ترامب، خصوصا انّ هناك في طهران من لا يزال يعتقد ان الفرصة ما زالت متاحة لاسقاط ترامب في انتخابات تشرين الثاني – نوفمبر 2020 وان الديموقراطيين سيعودون الى البيت الأبيض. لعلّ افضل من عبّر عن هذه التمنيات حسن نصرالله الأمين العام لـ"حزب الله" في لبنان الذي تحدّث في خطاب تأبين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس عن اخراج الجنود الاميركيين من المنطقة وعن "نعوش" لعسكريين اميركيين ترسل الى واشنطن.

يعبّر كلام نصرالله عن وجهة نظر مجموعة في طهران ما زالت تعتقد انّه لم يتغيّر شيء بعد تخلّص إدارة ترامب من قاسم سليماني. الواقع انّه تغيّر الكثير. لعلّ اوّل ما تغيّر ان الادارة الاميركية الحالية تعرف ايران جيّدا. اهمّ ما تعرفه هذه الإدارة قاسم سليماني هو من مفاتيح النظام وان تصفيته يمكن ان تشرّع الابواب امام تغيير كبير في طهران. ستثبت الايّام ان هذا التغيير سيحصل كما ستثبت انّ الوضع في العراق وفي سوريا وحتّى في لبنان المتجّه الى كارثة كبيرة لا يمكن ان يبقى على حاله.

ما يدلّ على ذلك مسارعة الرئيس فلاديمير بوتين الى زيارة دمشق بعد خمسة أيام على اغتيال قاسم سليماني والتصرف بطريقة تؤكد ان الكلمة الاولى والأخيرة في سوريا هي لروسيا وليست لإيران. كان لافتا انّ بوتين اجرى على هامش زيارته لدمشق محادثات مع رئيس النظام بشّار الأسد. بدا واضحا انّ اهمّ ما في الزيارة، إضافة الى توقيتها طبعا، الأجواء التي رافقتها، بما في ذلك السيطرة العسكرية والأمنية الروسية على الأرض والجوّ في الوقت ذاته.

اخذ بوتين علما بالتغيير الكبير الذي يحصل في ايران نتيجة تصفية قاسم سليماني. متى تأخذ ايران نفسها علما بهذا التغيير الذي سيعني تقليص حجم نفوذها في لبنان وسوريا والعراق في المدى القريب؟