محمد عباس حالة وعي معرفي جديد لا حد لإمتداداته

عمل محمد عباس 'الخروج من القالب، سجن، تقاليد' والمعتمد على تقنية فيديو آرت يغرد خارج سرب التصنيفات المعرفية التقليدية ويحرر المكان والزمن، كما يحرر التفاحة لتطلق مكنوناتها الخاصة.

ونحن نقترب من عمل الفنان التشكيلي محمد عباس والذي عنونه "الخروج من القالب، سجن، تقاليد" بتقنية فيديو آرت إنتابنا قلق كمن يقترب من جزيرة لم يكتشفها أحد بعد وهو قلق تضاءل رويداً رويداً كلما غصنا أزقة العمل.
 وهو عمل يعتبر خارج التصنيفات المعرفية التقليدية فهو حالة وعي معرفي لا حد لإمتداداته، بل هو عمل فيه يحول عباس العلامة المفردة إلى خطاب يربط فيما بينها على أكثر من نسق وفق مقتضيات تحليلية بالغة الأهمية ووفق ضوابط لن تحد من حريته وممارستها، فهو منذ البدء يمسك بكيان مرئي ومحسوس (التفاحة) ولكن وفق أهوائها هي.
 وهذا ما دفع عباس للضغط على دواخله حيناً علّ منتجه يقدم ذاته بوظيفة إبلاغية، إبداعية مشهدية في أكثر الأحيان.
 ويمكننا تقدير مغزى هذا التطلع إلى تجزئة الزمن وعلى نحو أخص حين يدفع بالعمل إلى التقطيع الإيقاعي، الصامت في البدء ثم الكنائسي /الجنائزي ثم التنبيهي وهذا ماحوّل الثابت إلى متغير، إلى لحظات تمثل إنتقالاً وصفياً / مشهدياً لما يجري فبدلاً من إلغاء الماضي يلجأ عباس إلى كسر الجمود وهدم الأسوار ليضمن بذلك القطب الدلالي للبلاغ السياقي الذي يمثل بياناً واضحاً بل جرساً يرنّ في كل المساحات.

 والجميل هنا عند عباس أنه يحرر المكان مع تحريره للزمن، فبتحريره للتفاحة وإطلاق سراحها تطلق هي بدورها مكنوناتها الخاصة وتحرر ذاتها فتخلق سياقات محسوسة ومقامات ملموسة تميل إلى التوليد داخل العلامة التي ستشكل لاحقاً سيرورتها غير الخاضعة للتقاليد إلا بمقدار ما من آلية ربط المتواليات البصرية والتي ستعتبر دالاً حين الإستعانة بالمشهد كله .
وبعبارة أخرى يمكن القول بأن سيرورات التأويل هنا يستوعب كل معطيات الموضوع، من خلال خلق علامة (تفاحة) بدمجها في عملية الخلق ضمن حضور مشروط لإستيعاب إنفعالاتها التي تحيلنا إلى رصد الحالة من حيث علاقاتها بأشيائها أولاً وبالتجاور ثانياً فهي تنسج روابط للتوكيد على علاقة الخارج بالداخل، الذهني بالبصري وبالتالي تشغل الدائرة (دائرة فعل العلامة) بدمجها بعملية البحث والخلق وهذا يوصلنا إلى فسحة تشبه تأطيرها قبل التحرر منها.
 فالمعرفة المباشرة هنا مغيَّبة لا ليحيل المتلقي إلى تخييل إدراكي غير مباشر بل ليحيله إلى تخييل /رؤياوي/ مستتر فيها يمارَس الفعل الجمالي بغنى المستويات الدلالية فيها.
 وهذا ما يجعل عباس يدفع العملية المعرفية / الإبداعية إلى إحالات جديدة هي بؤرة التواصل بين مفرداته من جهة وبين الداخل والخارج من جهات أخرى ضمن سيرورات تأويلية مستدامة من خلال أنساق متتالية لا متناهية.
 وبإعتبار العمل هو صفعة للرتابة وقبلة للبحث والحلم فإنه يحمل جذور عميقة تتجاوز المعطيات العامة داخل علامات مرتبطة بدورها بمعطيات الموضوع وبعناصر لا تخرج من دائرة التعيين بمفهومه الواسع . 
فالبعد التدليلي هنا يُعد العمود الفقري لإنتاج الدلالات ليس بعيداً عن سلطة المكان ولا عن سلطة الزمان فكلاهما يقودان الأنساق بوقائعها نحو إستعادة القيم الدلالية أولاً والمعرفية ثانياً .
بمعنى آخر يجب التساؤل وبقوة الفكرة وعمقها ما إذا كان للإدراك البصري هنا معنى تعتري أثر الحركة أم أنه يتلاشى بتلاشي الزمن بعيداً عن سيرورات التعبير في مستوياتها التوليدية.
ولن نخلط بين الإيقاع المرافق القادم من روح الفنان ذاته لتثبيت مبدأ الإنتشار للعمل و بين إيقاع الزمن المقارب للضوء في تحرك بقعه إلى حد الإكتفاء بتكثيف طاقاته مع إمكانية تحديد الملامح التي تقود العملية الجمالية دون تقليص زوايا الرؤية و هنا لا بد من الذهن أن يرافق البصر في إحتفائه ضمن البحث عن دائرة 
إستناداً إلى قراءتنا هذه فالمعطيات الظاهرة ماهي إلا إعادة إنتاج عناصر التجربة التي فيها إمكانات سردية هائلة مع رؤية أنساقها المعرفية/الجمالية كمعطى خارج الذات وعلى نحو أقرب حين يتعاقب الضوء والموسيقى في جانب والأبيض والأسود في جوانب أخرى ومسكاً نقول بأن عباس لن يكون رقماً هامشاً بل فاعلاً بقوة البنية الإدراكية المتولِّدة لديه.