محمود الضبع يسائل العقل العربي محذرا: الأمة في خطر 

الناقد والباحث المصري يشخّص في كتابه "مساءلة العقل العربي.. المسارات الغائبة" الواقع الثقافي العربي وكل ما يعتمل في لحظته الراهنة.
نحتاج لتحديد المفاهيم أولا ثم وضع الشعوب في مساراتها الصحيحة وهي القوى الوحيدة القابلة للبناء والإنتاج
الخطر يكمن في التصور العقلي أو ما يمكن تسميته الوعي العربي العام

يسائل الناقد والباحث د. محمود الضبع في كتابه "مساءلة العقل العربي.. المسارات الغائبة" الواقع الثقافي العربي وكل ما يعتمل في لحظته الراهنة، هذه اللحظة الحافلة بالاضطربات والانقسامات والصراعات والانهيارات، باحثا عن الأسباب والدوافع التي أوصلت عقله ووعيه إلى هذا الوضع الذي بلغ مرحلة خطيرة من التشويش والتشويه، محذرا من الاستمرار في هذه الحالة التي تتخبط فيها المفاهيم ويسيطر الخرافي على العقلي وتتسع دوائر الفقر والجهل والأمية والتطرف والتشدد تحت وقع الفساد والمحسوبية والمجاملة. متسائلا: ما الذي أصاب العقلية العربية لتنقطع صلتها عن منجزها وتختفي مميزاتها شيئا فشيئا وتصير إلى ما آلت إليه الآن من مكانة متأخرة؟ 
ويقرأ من زوايا مختلفة للوضع العربي والثقافة العربية والعقلية العربية والوعي العربي، من منظور التأمل والتحليل واختيار الظواهر والممارسات على مستويات عدة: جغرافية وتاريخية ونفسية واجتماعية واقتصادية وحضارية، وكثير مما يدخل في هذا السياق مما يكشف عن راهن العقل العربي والثقافة العربية والهوية العربية.
الكتاب الصادر عن دار بتّانة يأتي في صيغة أقرب إلى طبيعة المقالات، لأنه وفقا للضبع ليس دراسة أكاديمية في تخصص بعينه أو مدخل من مداخل دراسة المجتمعات، وإنما هو دراسة تحليلية ثقافية تأملية في الوضع الثقافي الراهن للأمة العربية وخاصة مصر، ترى أن قليلا من التأمل يكفي "أن ننتبه لملامح المستقبل المخيف والذي لا تزال الفرصة بين أيدينا لمواجهته واحتجاز مكانتنا بين صفوف مالكيه ومرتاديه من شعوب العالم الذين يلحقون بالركب، وبخاصة أننا نمتلك أدوات الإنتاج ونمتلك العلماء والمفكرين والباحثين وأصحاب الصنائع، ونمتلك العلماء والعقول والطاقات المهدرة من شباب وكبار، ونمتلك القوى الناعمة التي تعتمدها الشعوب بوصفها أقوى الأسلحة، نمتلك القوى الحقيقية لكننا نغفل عنها، نمتلك كل ذلك ونمتلك الموارد الطبيعية المتنوعة والثرية والفريدة ولكنا نحتاج لتحديد المفاهيم أولا ثم وضع الشعوب في مساراتها الصحيحة وهي القوى الوحيدة القابلة للبناء والانتاج".

كل مرحلة من مراحل الوجود العربي رسخت أفكارا اجتماعية وعادات وتقاليد، بعضها لم يكن إيجابيا، من نشر روح الفرقة والتناحر، وإقرار لعادة سب آل البيت على المنابر وفي دور العبادة لمدة مائتي عام في الدولة الأموية مثلا

توقف الضبع عند عمليتي التعليم والتعلم ودور المعلم وعلاقته بمستجدات التدريس ومفهومه المتغير متسائلا: كيف نستطيع الوصول بالمعلم في واقعنا العربي إلى امتلاك مهارات التدريس المبدع والتدريس التفاعلي؟ وما التداخلات والبرامج التدريبية التي سيحتاج إليها وصولا لذلك؟ وهل يمكن لمعلم لا يمتلك القدر المناسب من الثقافة أن يمتلك مهارات الإبداع والتخييل والقدرة على التفاعل مع المتعلمين ومراعاة الفروق بينهم، ومراعاة احتياجاتهم المتنوعة وتصنيفها في أنماط للتعليم تباعا لما توصلت إليه نتائج الأبحاث التربوية في هذا الصدد؟
وقال الضبع "نحن في حاجة ماسة لوضع برامج تثقيفية للمعلمين العاملين في المجال بالفعل، كما يقتضي الأمر وضع مثل هذه البرامج في مقررات الطلاب الجامعيين الذين سيعملون مستقبلا في هذا المجال، وهذا أمر ليس مستحيلا ولا صعب التنفيذ، فقط يحتاج لإرادة ومشاركة فعلية بين وزارات التعليم العالي والتربية والتعليم والثقافة، مشاركة مدركة أولا لخطر ما نحن فيه بفعل القطيعة بينهم إلا ما ندر، ومتوجهة نحو كسر بيروقراطيات عربية تأصلت عبر السنين، ولكن يمكن كسرها بسهولة، والتجربة دالة ومؤكدة: تجربتي الشخصية مع طلاب الجامعة ـ وهم شهود حتى الآن ـ في كيفية تخطي مثل هذه الصعوبات دون خرق للقوانين واللوائح، بل على العكس وجدنا اللوائح الداعمة، والأهم في ذلك تمثل في عدم احتياج مثل هذه الإجراءات لنفقات مادية وميزانيات، بل على العكس كان الشرط الأساسي تصميم برامجنا التثقيفية هو الاستفادة من الموارد المتاحة، وكان من نتائج التجربة ورشة عمل أسبوعية في أحد قصور الثقافة بعد انتهاء المحاضرات واليوم الدراسي في الجامعة، بلغ بها الأمر أن انضم إليها طلاب من كليات مختلفة وتخصصات عدة، بل انضم إليها أفراد من المجتمع المحيط بعضهم من أصحاب المعاشات وبعضهم من الموظفين في القطاعين العام والخاص، وبعضهم من المواطنين العاديين من محبي القراءة أو ممن فاتتهم الفرصة لممارسة نوع من أنواع الكتابة في حياتهم من قبل.
وفي سياق قراءته للسياسة الهجومية التي نمارسها نحن العرب على تراثنا وحياتنا وتقاليدنا، تساءل الضبع: هل نستطيع بناء تصور عقلي ولو محتمل عن هذا الهجوم الذي ألفناه على تراثنا وحياتنا وتقاليدنا؟ هجوم نمارسه جميعا في رفض ما كان يربطنا بهويتنا العربية من مأكل وملبس وفكر وأساليب حياة ناهيك عن عادات وتقاليد وقيم ومفاهيم. أو هل نستطيع البحث عن بديل معاصر لملامح هذه الهوية في ارتباطها بالواقع الذي نعيشه، وبالتالي نتمكن من الحفاظ على ما تبقى لدينا من قيم وتقاليد وأشكال حياة يمكن تطويرها لتتناسب مع المعاصرة مع قدرتها الفاعلة على الاحتفاظ بتلك الهوية؟ هل نستطيع بناء هذا التصور العقلي عن واقعنا لنتمكن من بناء التصور الأهم عن المستقبل والأخطار التي تهددنا لو استمر بنا الحال على هذا المنوال الذي نحن ماضون فيها وبكل قوة؟

وأضاف "نحن أمة في خطر والخطر يكمن في هذا التصور العقلي أو ما يمكن تسميته الوعي العربي العام، ذلك الوعي الذي يقتضي بذل المزيد من الجهود لإعادة بنائه قبل أن يتدهور به الحال أكثر مما هو عليه، ويتزايد هجومه على ماضيه وتراثه وفنونه وآدابه وهي العناصر المشكلة لهويته، وعلى الجماعات الأخرى ممن لا ينتمي هو إليهم، ولننظر في واقعنا العربي إلى هجوم الجماعات المنتمية لأيديولوجيا فكرية أو عقيدة ما على الجماعات الأخرى ممن لا ينتمون إليهم. 
إن بذل المزيد والمزيد من الجهود، وعلى وجه الخصوص في مسار الاهتمام بالتعليم والتثقيف والإعلام، فإصلاحهم سيصلح وعي المجتمع ويوقف هجوميته على هويته العربية، وصلاح الوعي سيحقق التنمية والتقدم، ويقلل الأمراض ويمنع الجريمة ويحد من الإرهاب إن لم يكن يمنعه، ويحول نمط الاستهلاك إلى نمط إنتاج وبالتالي يخفف عن كاهل الدولة ويرفع من مستويات التنمية إجمالا بما يصل بها لمتطلبات العصر.
وفي مقالته "العقل العربي وصناعة الإرهاب" تناول الضبع تفشي ظاهرة الإرهاب في السنوات الأخيرة سواء داخل البلدان العربية أو في الغرب الأوروبي والأميركي، وقال في كل الأحوال تتناول وسائل الإعلام أن منفذي العمل الارهابي جماعات تنتمي لأصول عربية أو لفكر أو معتقد عربي. وسواء أكان ما تتداوله وسائل الإعلام مدعيا مصنوعا ومسيسا من قوى خارجية أم صادقا وناقلا للواقع فعلا، سواء أكان هذا أو ذلك فإن الأمر يقتضي مناقشة فرضيتين جوهريتين، الأولى فرضية أن العقل العربي متهم في تصديره للإرهاب وإنتاجه لبعض أشكال الفكر المتطرف ممن يمارسون الارهاب داخليا وخارجيا وأنه برئ من هذه التهمة. والثانية هو كون العقل العربي كذلك بالفعل وليس هناك اتهام موجه له وإنما هي الحقيقة بالفعل.
وأوضح "أما الفرضية الأولى المتعلقة ببراءة هذه العقلية ألا يستلزم الأمر مواجهة الفكر بالفكر فنبحث ثقافيا عما نقل عنا هذه الصورة والأسباب السياسية الكامنة وراءها، ومواطن الضعف التي تم استثمارها في ثقافتنا ليغزونا الآخر عبرها؟ أليست ثقافتنا بالفعل حاملة لبعض بذور هذا التطرف من قدرة على الخصام إلى الفردانية وعدم امتلاك القدرة على العمل الجماعي المشترك، إلى استعداد لقتل الغير وصولا إلى تفجير وقتل النفس ناهيا عن الأحكام التي نصدرها على المخالف لنا فكريا؟ 

بناء تصور عقلي
اللحظة حافلة بالاضطربات والانقسامات والصراعات والانهيارات

لننظر إلى الخصومات التي تنشأ بين القبائل والجماعات والعائلات والأفراد، وحجم العداء الذي تتكشف أبعاده آنذاك والعنف الذي يولد عنه. لنتأمل الحياة العلمية في أبحاثها وأنماط الادارة والحكم مثلا لتدلنا على الفردانية وعدم قدرتنا على البناء على ما كان قبلنا، ومواصلة الجهود التي بدأها من سبقونا، والديكتاتورية التي ندافع بها عن آرائنا، ولنتأمل أكثر ما أصيب به البحث العلمي من سريان لهذه الروح، وعدم إيلاء العناية للعلم من أساسه. لنقرأ فكر القاتل والإرهابي والمجرم والظروف الاجتماعية التي أحاطت بهم، للوقوف على بذور الإرهاب في وعينا العربي.
وحول الفرضية الثانية المتعلقة بكون العقل العربي هو صانع الإرهاب، أكد الضبع أن الأمر يقتضي مراجعة الوعي العربي وعاداته وتقاليده وأمراضه الفكرية المتوارثة التي آن الأوان للاعتراف بها، وليس فقط توجيه الاهتمام وحصره في مراجعة الخطاب الديني فقط وقصر المسئولية عليه وحده، وذلك على الرغم من مسئوليته الضالعة.
ورأى ضرورة التوافق والاتفاق حول مفهوم التراث العربي وعدم حصره في الفكر الديني الذي تمت صياغته بدءا من القرن الثاني الهجري، أي منذ ما يزيد على الألف ومائتي عام، وكان مناسبا لزمانه آنذاك، وهو سيختلف حتما عن التراث المعني هنا. وهو كل صالح للتداول الآن من الموروث الفكري والاجتماعي والديني والأخلاقي في القديم العربي البعيد، أو المنتج الفني والعلوم والآداب التي أنجزتها الشعوب العربية عبر مسيرتها في القديم العربي القريب "عصور النهضة وما تلاها". 
ونبه الضبع إلى أن كل مرحلة من مراحل الوجود العربي رسخت أفكارا اجتماعية وعادات وتقاليد، بعضها لم يكن إيجابيا، من نشر روح الفرقة والتناحر، وإقرار لعادة سب آل البيت على المنابر وفي دور العبادة لمدة مائتي عام في الدولة الأموية مثلا، ومن إذكاء لروح العصبية والشعوبية لاستخدامها سياسيا، أولا ثم تحولها لفعل اجتماعي تاليا في الدولة العباسية وتأجيج لروح الفتن والدسائس في الدولة الفاطمية، ثم الحكم العثماني وما ترتب عليه من تجهيل للشعوب العربية وفصلها عن أسباب التطور الذي لحق العالم من حولها. 
كل ذلك أدى لتوريث الشعوب العربية عيوبا وسلبيات غير قليلة عملت نظم الثقافة والتعليم على التخلص منها بدءا من مطالع القرن التاسع عشر، ثم أهدر الاستعمار هذا التصحيح، وأضاف إليها سلبيات أخرى يعد أهمها التبعية الشرقية للغرب فكريا واجتماعيا في كثير من الأحيان وبالتالي تزايدت معدلات الانفصال حتى عن القيم العربية الأصيلة التي كانت تحمينا، وتزايدت معدلات السلبية والاستسلام وعدم الدافعية.