مرة أخرى عن سلطة الكهنوت السياسية


السلطة السياسية للمرجعية في ظاهرها التوفيق بين الكتل الشيعية على رئيس وزراء، وفي حقيقة الأمر أنها تعرض ما تريده بلا تهديد ووعيد. لكن من يمتلك الجرأة على رفض خياراتها.
التصريحات بشأن نتائج الانتخابات لا تعني محمد رضا السيستاني عندما يلتقي في النجف قادة الأحزاب الشيعية من أجل التوافق وحده ولا شيء غيره لكن على ماذا التوافق إن لم يكن على خيار المرجعية.

ليس بمقدور أي من السياسيين العراقيين رفض تلك السلطة، فهي بمثابة إرشادات مقدسة وحكيمة يجب الخضوع سياسيا لها وقبل ذلك الترحيب بها، بغض النظر عن مضمونها. فسلطة المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني لا يمكن أن تجانب الحكمة، ولا تفكر إلا بمصلحة العراقيين.

لكن، حيال سؤال صار يتردد في العراق منذ عام 2003: من أضفى على السيستاني رجل الدين المعني بأصول الفقه الشيعي، شرعية سياسية؟ لا تأتي أي إجابة، إن لم يصادر حق السائل في السؤال وتصفيته من قبل المتشددين الشيعة.

وفي أفضل الأحوال تأتي إجابات مخاتلة وباردة في مشهد سياسي عراقي ملتهب عندما تزعم بثقة أن السيد السيستاني لا يتدخل في الشأن السياسي، ويكتفي بالنصح! ذلك ما يعبّر عن طبيعة الدولة الدينية الموازية القوية والثرية معا في العراق.

سلطة مرجعية النجف التي تدير أموالا تعادل ميزانيات دول، وتمتلك مؤسسات اقتصادية ومعاهد ومشاريع كبيرة، لا تخضع للدولة العراقية “إن وجدت دولة وفق مفهومها”.

الأهم من ذلك ما تمتلكه من سلطة عسكرية أو ما يسمّى حشد المرجعية، أو حشد العتبات المكون من فرقة “الإمام علي القتالية” وفرقة “العباس القتالية” ولواء “علي الأكبر” ولواء “أنصار المرجعية”. وتضم حوالي عشرين ألف عنصر ترفع شعارها المعهود “حاضنة الفتوى وبناة الدولة”. لكن السؤال عن أي دولة تتحدث هذه الميليشيات التي لا يديرها الجيش العراقي، ثم أي مفهوم لدولة تدار بالفتاوى الدينية؟

إننا نتحدث عن دولة متكاملة بأموالها وقواتها القتالية داخل الدولة العراقية، الأهم من كل ذلك، أنها لا يمكن أن تخضع للمحاسبة المالية ولقوانين الدولة وسلطتها.

المرجعية موجودة منذ عقود في العراق، وتحديدا في مدينة النجف الأشرف، وكانت تدير شأنها الفقهي والتشريعي والدراسي وتقبل أموال الزكاة والتبرعات من خارج العراق. لم تصبح دولة بتلك القوة المالية والسياسية إلا بعد عام 2003.

كانت الدولة العراقية قبل 2003 تسمح لمعاملات المرجعية، وخصوصا المالية منها وباستثناءات خاصة لها عندما تتواصل مع جهات محلية أو خارجية. لكن عندما تمر معاملات المرجعية عبر المؤسسات الحكومية للدولة العراقية، كانت تعامل وفق القوانين المعمولة.

واحدة من أشهر الرسائل الخاصة التي بعثها المرجع الشيعي السابق أبوالقاسم الخوئي إلى رئاسة الجمهورية آنذاك، تعاتب الحكومة على فرض رسوم عليها بعد وصول كمية من مكيفات تبريد من خارج العراق لمدارس الحوزة.

وعندما وصلت رسالة الخوئي إلى الرئيس العراقي آنذاك أحالها إلى الجهات الأمنية، التي ردت على المرجعية بأنه لا يمكن أن تدخل معدات بهذه الكمية الكبيرة عن طرقات مؤسسات الدولة، من دون أن تفرض عليها الشروط القانونية المعمول بها للاستيراد. وذكّرت الجهات الأمنية المرجعية أنها سبق وأن تلقت مبلغا ماليا كبيرا تبرعا من جهات خارجية، فصدر قرار من أعلى السلطات الحكومية آنذاك يقضي بتسليم المال إلى المرجعية كاملا بلا أي رسوم وفق اعتبارات وقوانين الهدايا.

تلك واحدة من القصص التاريخية في علاقة المرجعية مع الحكومة آنذاك، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تتكرر اليوم وفق مفاهيم الدولة الوطنية.

فمرجعية السيستاني الدينية هي دولة مستقلة عن الدولة العراقية تمتلك القوة والسلطة للتأثير في ما يحصل بالعراق، من إقرار الدستور الجديد مرورا بقوانين الانتخابات حتى اختيار شخصية رئيس الوزراء. وتجربة السنين الماضية كشفت لنا بلا مواربة، أن من لا ترضى عليه مرجعية النجف لا يمكن أن يمر إلى رئاسة الحكومة في المنطقة الخضراء.

ومع الأزمة الشيعية الشيعية بعد الانتخابات البرلمانية، تحضر السلطة السياسية للمرجعية، وفي ظاهرها التوفيق بين الكتل الشيعية على رئيس وزراء، وفي حقيقة الأمر أنها تعرض ما تريده بلا تهديد ووعيد. لكن من يمتلك الجرأة على رفض خياراتها.

السيد علي السيستاني، رجل خارج التاريخ، زاهد بالحياة لا يغادر منزله المتواضع في النجف إلا نادرا، ولا يقابل السياسيين، لا يتكلم. لا يظهر على شاشات التلفزيون، ولا توجد أي معلومة تؤكد أنه يشاهد التلفزيون أصلا! لكن كل هذا الزهد والتواضع الذي لا يمكن لأي متابع موضوعي التشكيك به. يمكنه أن “يحكم” بطريقة أو بأخرى السياسة العراقية. وأن ثروة المرجعية المالية التي يقف على رأسها رجل دين زاهد، ليس من أجل فقراء العراق، مع أنها تستحصل في معظمها من أموال العراقيين.

اليوم يقوم محمد رضا السيستاني نجل المرجع الشيعي، بتحريك الباب الدوار الذي خرج منه السياسيون الفاسدون، كي يدخلوا ثانية. ليس المهم من يكون رئيس الوزراء القادم، سواء من التيار الصدري الفائز مبدئيا بالانتخابات، أو حتى نوري المالكي الطامح بقوة إلى ولاية جديدة. المهم أن محمد رضا السيستاني من سيحدد مواصفاته التي يباركها السيد الوالد!

كل ضجيج الخلافات والتصريحات المتصاعدة بشأن نتائج الانتخابات، لا تعني محمد رضا عندما يلتقي قريبا في النجف قادة الأحزاب الشيعية، من أجل التوافق وحده، ولا شيء غيره. لكن على ماذا التوافق، إن لم يكن خيار المرجعية.

هل، بعدها من يأتي ويشكك بسلطة ذلك الكهنوت الطائفي على الدولة العراقية وصناعة قرارها السياسي؟

حيال تلك القراءة المتشائمة لمستقبل العراق السياسي، يوجد خبر سعيد لم يتم الالتفات إليه كثيرا، بعد أن أهملت الغالبية العظمى من العراقيين رسالة السيد السيستاني التي حثتهم على المشاركة في الانتخابات والتصويت لخيار الأفضل. كانت المقاطعة واحدة من أروع الرسائل للعراق الدولة، وبداية الرسائل السيئة لسلطة المرجعية.

لقد وصلت الرسالة الوطنية العراقية بعدم الانصياع لتعليمات أو توجيهات المرجعية. وسيكون العراق سعيدا جدا لو أخبر أحدهم السيد السيستاني بعلاقة رسالته التي حث فيها العراقيين على التصويت، ونسبة مقاطعة الانتخابات التي فاقت التصور. وسيمسح العراق بعض دماء جراحه المثخن بها، إن علم أن هتاف “خدعتنا المرجعية وجلبت لنا السرسرية” قد وصل إلى مسامع السيد السيستاني بعد أن هتف به العراقيون في وجوه إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وعمار الحكيم… وسيكون الهتاف أشد بوجه مقتدى الصدر!