مروى قديمة: ستغادر لوحاتي أطرها، لتنتشر في الفضاء
الفن.. هذا الذهاب عميقا تجاه الينابيع حيث الشغف المفعم بالرغبات قولا بالجمال وبالأسئلة وفق اعتمالات شتى هي ما تداعى من الدواخل.. والفن بما هو الحلم تقصدا لتحويل الأمكنة إلى علب تلوين وتشكيل حيث الأنامل تخط شيئا من الأمنيات وتدعك من طين الحال كونا من الوجد والبهاء.. هذا إذا نظرنا للفن في جوانبه البصرية الجمالية التي لها اتصال بباقي التعبيرات الفنية والممارسات الإبداعية الأخرى..
في هذا السياق من التمشي الفني ومنذ طفولة أولى متواصلة وإلى الآن في الذات الفنانة نلج عوالم تجربة مثلت صاحبتها هذا الدأب من الرغبة في الذهاب بعيدا في عوالم الفن والتشكيل رفقة أحلام ناجمة عن تلمسات أولى قديمة في عوالم التشكيل الفني بما أتيح من الممكنات والولع والانشداد لتترسخ الفكرة وتكتسب التجربة وتتعمق الأسئلة..
من بيئة أولى بالوطن القبلي وببني خيار تحديدا كان الشغف الممزوج بطفولة حالة تجاه اللعب مع المادة في محاولات كشف واكتشاف.. محاولة ومحاورة حيث الفضاء الاجتماعي الذي يتيح الغرام تجاه الإبداع الخزفي والتفاعل مع الطين وما يشكله من جمال وهيئات وأشكال تعبيرية تلتقي في النهاية في هذا الأفق الجمالي الرحب..
نمضي إذن مع عوالم الطين والخزف في بيئة تشربت كثيرا من ينابيع هذا الفعل الفني والجمالي حيث الورشات القديمة ومعامل الخزفيات والمعروضات بما فيها من عفوية وجمال مبثوث وبقايا أنفاس وأحوال ورسومات بأنامل حرفيين ومهنيين بما فيها من رغبات وبراءة وأحلام..
من تلك الربوع بالوطن القبلي كانت بدايات الفنانة التشكيلية مروى قديمة التي نلج عوالمها حيث تواصل تجربتها ضمن الممارسة الفنية وفق رؤيتها وفكرتها التي تمضي فيها لتتعدد مشاركاتها الفنية والتشكيلية التي كان منها معرضها الشخصي الأخير بعنوان "شظايا" في مرحلته الثانية بدار سيباستيان بالمركز الثقافي الدولي بالحمامات للفترة بين 03 و24 فبراير/شباط الجاري..
وفي هذا المعرض تبرز الفنانة مروى قديمة بخصوصية عملها الفني الذي تشتغل عليه ضمن الراكو وعبر اللعب على الممارسة الفنية بالألوان ومختلف تقنيات فن الخزف والمواد وجماليات وممكنات السيراميك انطلاقا من آلة الكمان التي تبتكر لها ذاكرة شاسعة ومتحركة وحية بين البناء والتشظي والمراكمة والتشتت باختلاف المواد وتنوعها حيث العلاقة بين الحالة والآلة بين الطين وآلة الكمان في إطار من الدلالات والثنائيات المتصلة بالفن والحياة.. كل ذلك بوعي جمالي وفني للفنانة التشكيلية التي تبحث وتبتكر خلال عملها الفني وقبله.. وذلك وفق مسار وبحث وهواجس رافقتها منذ البداية.
وفي هذا السياق تقول الفنانة مروى "إنَ شغفي بالفنَ التشكيلي كان منذ الطفولة، فكانت مسيرتي المدرسيَة ثريَة بالمشاركات والملقيات الفنيَة سواء الجهويَة أو الوطنيَة. عند اجتيازي مرحلة الباكالوريا قررت التوجه إلى المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل للتفرَغ تماما للفنَ وبداية مشوار فنيَ تشكيلي أساسه التكوين الأكاديمي والعلمي مع الممارسة التشكيليَة التطبيقيَة طبعا. إنَ ما ساعدني في التمكَن وإتقان مختلف التقنيات في فنَ الخزف هو تواجدي الدائم في ولاية نابل وتحديدا بين مدينتي بني خيار ونابل. لن أنسى أي مهنيَ في الخزف أو أصحاب الورشات التقليديَة أو المصانع المختصَة في الخزف لرحابة صدرهم وفتحهم الأبواب لي لكسب التجربة الثريَة التي جعلتني أطوَر من معارفي ومكتسباتي لإنشاء أعمال تشكيليَة فنيَة ذات بعد متفرَد خاصَ بي".
وتضيف "كلَ الشكر لكلَ من علمني حرفا في مسيرتي الدراسية والجامعيَة ولكل مهنيَ أفادني بشيء ولو بسيطا من تجربته، فأنا اليوم كدكتورة في علوم وتكنولوجيا الفنون وأكاديميَة وأستاذة تربية تشكيليَة، من دوري البحث على البعد المفاهيمي للعمل التشكيلي الخزفي وإدراك خفاياه. البعد التقني ضروري في اختصاص الخزف ولكن إتقانه لوحده ليس كفيلا بنحت صورة الفنَان فالبعد التعبيري وإنشائيَة الإنجاز تزيد ثراء كلَما تعدَدت القراءات والتأويلات... لقد وجدت في تقنية الخزف وتحديدا الراكو أبعادا مفاهيميَة كثيرة أذكر منها، العفويَة والصدفة... فالتشققات التلقائيَة الناتجة عن تفاعل قطعة الخزف مع الهواء تسلك طرقا متعدَدة من غير تخطيط مسبق لها، فتنتشر فوق سطح القطعة محدثة ذبذبات بصريَة من شأنها أن تشعرك بالضياع... أمَا بالنسبة للقيمتين الضوئيتين التي تسيطر على المعرض 'شظايا'، فهي إحالة لعدَة ثنائيات منها تواتر الليل والنهار، الهدم وإعادة البناء، الموت والحياة، الموت والإنبعاث، الحب والكراهيَة، الماضي والحاضر..."..
وعن السياق الحاف بالمعرضين تقول الفنانة "لم يكن معرض شظايا في محطَته الثانيَة مجرَد تغيير لفضاء العرض فقط بل لدي نظرة أتحدَث عنها كما يلي: مسرحة الفضاء/مسرحة المعرض..".
وتتابع: إنَ فضاء العرض الجديد في دار سيباستيان الذي وقع تدشينه بمناسبة معرض شظايا، يتميَز بطابع معماري مميَز يتماشى مع أعمالي التشكيليَة الخزفيَة من ناحية الحجم ومن ناحيَة الألوان (الأبيض والأسود). الفضاء هو عبارة عن متحف لتوثيق التاريخ، فمنذ دخوله نجد بقايا حديديَة للسخَان الذي كان يستعمله سيباستيان لتسخين الماء والمنزل، أيضا نجد محرَكا لذاك السخان وشظايا أخرى لم تترك ذاك المكان إلى اليوم، بل بعد عديد السنين يتحوَل الفضاء من مجرَد كهف لتزويد المنزل بالحرارة إلى كهف فنيَ تنبع منه حرارة الحسَ الفني، فيستقبل شظايا، معرضا ليسكن المكان ويؤثث الجدران البيضاء ويزيد من المتناقضات... فيجمع بين الأبيض والأسود، الماضي والحاضر، القديم والحديث...
وتضيف: أما بالنسبة للعلاقة التي نشأت بين أعمالي والفضاء أرى أنَها المسرحة La théâtralité... مسرحة كلَ من الفضاء والمعرض... في قراءة لعمل Tombeau نرى مسرحة الكمان الشيء... أنسنة الكمان الشيء... ليتحوَل إلى كائن من قوَة ما يكمن بداخله من أحاسيس متوهجَة يريد أن يغادر قبره وينبعث من جديد.
وتوضح: حاولت من خلال هذا المعرض إعادة إخراج أعمالي في حلَة جديدة تتماشى مع الفضاء. أضفت ستارا أسود لمسرحة قبر الكمان وسخان صاحب الفضاء... اللَون الأسود يمثَل الرابط الظاهر بين مكوَنات الصورة التشكيليَة، المسرحيَة... أما في الحقيقة هي مسرحة لحالات نفسيَة تتمظهر من خلال الأشياء. لتجعلنا نتراوح بين الماضي والحاضر، بين الغائب والحاضر، بين الظاهر والباطن...
وتواصل: سأتحدَث الآن على عمل تشكيلي ثاني يمثَلLa théâtralité de l’attente حيث تحوَل العمل الخزفي إلى تنصيبة متكوَنة (3 كراسي/ عمل خزفي تقنية راكو / قماش). قمت بتنصيب مماطلة وهو اسم العمل فوق ثلاثة كراسي حديديَة سوداء اللَون، وفوقها قطعة قماش تتدلى حتى الأرضيَة لتزيد من تمثيل المماطلة والانتظار.. ثلاثة كراسي وفي تكرار الشيء هناك التأكيد... طول قطعة القماش وتدلَيها يزيد من مفهوم المماطلة... لن يتوقف معرض شظايا عند هذا المستوى وإنمَا سيتواصل المشروع وتنضاف إليه فنون أخرى ففي تظافر الفنون تجديد وتجدَد وثراء، وهذا ما يؤكد اهتمامي بإشكاليَة تظافر وتداخل الفنون في تجربتي التشكيليَة التطبيقية وفي بحوثي ومنشوراتي النظريَة، حيث أثرت علاقة الموسيقى والرسم في تجربة بول كلي، والعلاقة الجدليَة بين الصورة الشعريَة والصورة التشكيليَة ومن ثم توجهت من الصورة التشكيليَة إلى الصورة السينمائية حيث تنضاف الموسيقى... وكلَما انضاف فنَ من الفنون اكتسب العمل الفنيَ أبعادا جديدة للتعدَد قراءاته وتأويلاته...
وتقول: لن أقتصر في معرضي الشخصي الثاني شظايا على ترحاله وتجواله بين أروقة فنيَة ثقافيَة متعدَدة، بل انطلاقا من فنَ الخزف المعاصر سيتطوَر المشروع الفنيَ لتتغيَر ملامحه التشكيليَة. إنَي بصدد تحضير تصَور لعرض كوريغرافي حيَ، يجمع بين شظايا، الرقص، التعبير الجسماني، الموسيقى والضوء... ستغادر لوحاتي أطرها، لتنتشر في الفضاء، فمنها الشظايا التي ستكون منبسطة على الأرض، وأخرى معلَقة في الفضاء، تتأرجح بين السقف والأرضيَة... سنرى تركيبات مشدودة بخيوط شفافة رفيعة... كلَها شظايا تتطاير في الفضاء. سأقوم بتسليط ضوء على الأجزاء المتدليَة لينعكس ظلَها على الجدران التي كانت فارغة لتسكنها ظلال شظايا الكمنجات... وبذلك يتضاعف عددها وتزداد حركيَتها... وبين تلك التركيبات الملقاة أرضا والمتدليَة من السقف، تتنقَل راقصة الباليه بحركاتها الرشيقة، متخذة نسق الموسيقى التي تسمعها مرجعيَة لنسق حركاتها.. متفاعلة مع الشظايا التي من حولها... فتارة تداعبها وتارة تتجاهلها... فالشظايا تجعلنا نتذكَر الماضي فنحاول تركه لنغادره لننطلق نحو المستقبل... مثلما غادرت أجزاء لوحة "شظايا" إطار اللَوحة لتغيَر إطار وجودها وسياقها التشكيلي... من الجمود إلى الحركة... من الصمت إلى الضوضاء...
والفنانة مروى قديمة حاصلة على شهادة الدكتوراه في علوم وتكنولوجيا الفنَ من المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل. ولها عديد الأنشطة العلمية منها المشاركة في فعاليَات الندوة العلميَة العالميَة المنظمة من طرف جمعيَة praxis تحت عنوان " Regards nuances surl4qrt qctuelenTunisiepratiquesmlieux d expositions et actants "Derrière les بمداخلة علميَة تحمل عنوانbarreaux : Une exploration artistique du vécu carcéral
والمشاركة في الندوة العلميَة الدوليَة المنظمة من طرف جامعة قابس بمناسبة إحياء عشرينيَة تأسيسها تحت عنوان "إنسانيَات متعدَدة في عصر الرقمي: التحديَات والأدوار والرهانات" وعنوان المداخلة: « Décrypter le monde digital : Comment la révolution numérique bouleverse les sciences humaines ? » ، والمشاركة في الندوة العلميَة العالميَة "العلاج بالفن" تحت عنون علاج الصَدمة المنظم من طرف كليَة الطب بالمنستير.
ومن التربصات التي شاركت فيها نذكر التربص في تقنية الراكو في المركز الوطني للخزف بسيدي قاسم الجليزي، والتربَص في تقنيات الاختزال المنظم من طرف الجمعيَة التَونسيَة للفنون والوساطة بسليمان، كما أنها كانت ضمن إنجاز جداريَة مع تلاميذ المعهد الثانوي ابن شرف بالزريبة ولاية زغوان بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للشجرة.
وعن المعارض كانت لها مشاركة في المعرض الجماعي العالمي المقام في روما تحت عنوان " SENSES INTERNQTIONQL QRTFQIR 2023 - FUTUTRE LANDSCAPES" بعمل تشكيلي خزفي يحمل عنوان Eclats de reve إلى جانب عدد من المعارض الفنيَة الوطنيَة، ونذكر ضمن المعارض الشخصيَة معرضها بعنوان "شظايا" (EXPLOSE) للفترة من 11 إلى 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 برواق المركب الثقافي نيابوليس نابل، ومعرض بمقر جمعيَة صيانة مدينة نابل..
إلى جانب المعارض الجماعية ومنها صالون الخزف المعاصر في دورته السادسة بفضاء قصر خير الدَين بتونس بعمل تشكيلي خزفي، ومعرض الفنانين الشبَان المنظم من طرف اتحاد الفنَانين التشكيليين التونسيين بفضاء قاعة يحيى بالبالماريوم بتونس بعمل تشكيلي خزفي بعنون "اثر"، وبصالون الخزف المعاصر في دورته الخامسة بفضاء قصر خير الدَين بتونس بعمل تشكيلي خزفي بعنوان "Etat d’âme"، إلى جانب المشاركة في مسابقة الجائزة الكبرى للفنون التشكيليَة المنظمة من طرف بلديَة تونس بعمل تشكيلي خزفي يحمل عنوان "Abysses" المعروضة في قاعة عرض سانت كروا "Saint-Croix" بتونس...
تجربة فنية ضمن السياق الجمالي للباحثة الفنانة مروى قديمة حيث التواصل مع الممكنات الجمالية لـ"شظايا" حيث التفكك وإعادة التشكيل والتشظي والبناء وما إلى لك من الدلالات التي يبرزها هذا النحو الفني في قادم المعارض والمحطات الثقافية الفنية.