مصريون وفرنسيون يتحدثون عن الإسكندرية 21

القنصلية العامة لفرنسا بالإسكندرية تعد كتابا بالعربية والفرنسية يبرز عمق العلاقة بين الثغر والدولة الفرنسية.
الإسكندرية تجلت من خلال هذا الكتاب لا كتجربة متوسطية فريدة وحسب، بل كدرس في الحياة، وكدعوة للتحدي
فرنسا ظلت لأكثر من قرن من الزمان هي المنبع الأول لكل تقدم ثقافي في مصر في مقابل الاحتلال البريطاني

"الإسكندرية 21 أو مستقبل رؤيا" كتاب أعدته القنصلية العامة لفرنسا بالإسكندرية، وشارك فيه عدد من الكتاب والمثقفين المصريين والفرنسيين، منهم إبراهيم عبدالمجيد، ود. مصطفى الفقي، ومصطفى نصر، ومختار سعد شحاته، ومحمد قدري، وشريف دلاور، وعبدالله ضيف، شاركت أيضا بمقالة في هذا الكتاب الذي كتب مقدمته الدبلوماسي نبيل حجلاوي قنصل فرنسا العام بالإسكندرية. وكتب باللغة الفرنسية كل من روبرت سول، وأندريه بونت، ونيفين خالد، وجيرالد جرونبرج، وجيان فرانسيسكو، وجين بيير، وعباس أبو غزالة، وهارفي شامبليون.
وتؤكد مقالات هذا الكتاب على عمق العلاقة بين الإسكندرية والدولة الفرنسية حيث تحتل الإسكندرية مكانتها الفريدة في حوض البحر الأبيض المتوسط التي تشبه إلى حد كبير تلك التي تبوأتها فرنسا في العالم، فكلاهما رمز للتميز والحرية والانفتاح والتنوع والالتقاء بالآخر.
ومن هنا بزغت فكرة هذا الكتاب، حيث طلبت قنصلية فرنسا العامة بالإسكندرية من نخبة من المثقفين الفرنسيين والمصريين الذين ارتبطت أسماؤهم بهذه المدينة إنتاج مساهمات فكرية تبرز هذا المصير المشترك. فكانت هذه الإسهامات ثمرة فكرية رائعة، فيها سبر لأغوار هذه المدينة، ووقوف على خبايا تاريخها واكتشاف لروابطها مع فرنسا، واستشراف لآفاقها المستقبلية.

لدى السكندريين طرقهم وثقافاتهم الخاصة في التعامل مع البحر الذي يحيط بهم من الشمال وكذلك البحيرات الكبيرة التي تحيط جانبهم الجنوبي

ويؤكد نبيل حجلاوي في مقدمته أن هذا النتاج المتميز من الأفكار باللغتين الفرنسية والعربية يعد مزيجا فريدا من التعابير والعبر، والأمل والحسرة، والحنين والنقد المتمعن في الماضي، ودروس النجاح والفشل، فتجلت الإسكندرية من خلال هذا الكتاب لا كتجربة متوسطية فريدة وحسب، بل كدرس في الحياة، وكدعوة للتحدي، ذلك التحدي الذي يتمنى الفرنسيون والمصريون رفعه سويا، يدا بيد. 
يقول الروائي إبراهيم عبدالمجيد إن فرنسا ظلت لأكثر من قرن من الزمان هي المنبع الأول لكل تقدم ثقافي في مصر في مقابل الاحتلال البريطاني، ولكن جاء منعطف الفكرة القومية، ثم الفكرة الإسلامية فأبعدتنا عن مصادر نهضتنا نهائيا.
أما د. مصطفى الفقي مدير مكتبة الإسكندرية فيذكر أن مصر وفرنسا تجمعهما علاقات وطيدة ممتدة منذ فترة ما بعد الحملة الفرنسية البونابرتية حيث ساهم علماء الحملة في كتابة ورسم وتوثيق كل شبر في ربوع مصر وأودعوه في موسوعة ضخمة تعرف بكتاب "وصف مصر" الذي يعد درة الموسوعات في تاريخ مصر. كما ساهم علماء الحملة في فتح أبواب التاريخ المصري القديم على مصراعيها وإماطة اللثام عن أعظم حضارة عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل، حين تمكن العالم الفرنسي الشاب شامبليون من فك شفرة رموز حجر رشيد في عام 1822. وقد خلدت مدينة الإسكندرية اسم هذا العالم الفرنسي حين أطلقت اسمه على أحد أهم شوارعها الرئيسية "شارع شامبليون". ويؤكد الفقي أن الحبل السري بين الثقافتين المصرية والفرنسية موصول، رغم أن العلاقات شهدت فترات مد وجزر حيث كانت ترتفع حينا، وتنخفض حينا آخر وخاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

علاقات وطيدة
مبنى القنصلية العامة لفرنسا بالإسكندرية

وتحدث الكاتب الروائي مصطفى نصر عن العلاقة بين فرنسا ومصر منذ حملة نابليون بونابرت، وأوضح أن الحملة كانت هي الاحتكاك المباشر الأول بين مصر وفرنسا. وفي مجال الأدب يتحدث نصر عن رواية "أصوات" للكاتب الراحل سليمان فياض وبطلتها سيمون الفرنسية التي ماتت إثر عملية الختان التي قامت بها الداية "أمسكن بسيمون الفرنسية المسكينة، وتم ختانها، فنزفت في عنف، فجئن بتراب الفرن لسد مسام خروج الدم، لكنها ماتت، واضطر الطبيب أن يكتب في تصريح الدفن أنها ماتت بالسكتة القلبية". ويكتب مصطفى نصر معلقا على نهاية رواية سليمان فياض: "لو عرفوا في فرنسا سبب موتها الحقيقي لحدثت مشكلة وأزمة بين مصر وفرنسا، وأصبحت فضيحتنا بجلاجل".
وفي مقاله "الروح الثامنة للإسكندرية" يذكر مختار سعد شحاته أن الإسكندري مدينة لا تموت على ما يبدو، وكلما ماتت روح أو استبدلت بأخرى، تماهت معها المدينة وأكملت رحلتها عبر تاريخ حافل ومثير، وذلك بعد أن استعرض حالات الإسكندرية وأرواحها السابقة منذ تأسيسها عام 331 ق. م فكانت الروح العسكرية، ثم الأرستقراطية في عهد البطالمة، مرورا بالروح الرومانية، والمسيحية، والفارسية، والإسلامية، والكوزموبوليتانية، ويرى أن المدينة تستولد روحها الثامنة التي تمحو تماما جمال أهلها ومبانيها وتبتلع ذكرياتها العريقة بلا قلب أو وقفة للوجع. مشيرا إلى أن إسكندرية جديدة تتشكل عبر الضواحي التي صارت شديدة الشراهة والرغبة في أكل المدينة ذاتها عبر إخطبوط الإسمنت المتوحش الذي يطوق المدينة ويتوغل سريعا نحو قلبها التاريخي في محاولة واضحة لتمكين تلك الروح الإسمنتية من المدينة كلها وابتلاعها بكل ماضيها العريق.
وعلى مدى مقاله لم يتحدث شحاته عن علاقة الإسكندرية بباريس أو فرنسا ومستقبل تلك العلاقة وهو الهدف من إصدار هذا الكتاب، ولكنه يوجه اللوم لمثقفي وكتاب ومفكري الإسكندرية بعد أن هجرها قائلا لهم: افتحوا أعينكم على الوجه الآخر لتروا مدينتكم الجديدة، ولتبدعو لنا طرقا للتعايش معه حتى يمكن تقبل كل ما في ذلك الوجه من قبح، بل والبحث عن ثمة جمال لربما نبتت زهرته وسطه، دون أن يشارك هو ككاتب ومثقف في تقديم حل ما لإشكالية الإسكندرية الآن بين القبح والجمال. 

ساهم علماء الحملة في فتح أبواب التاريخ المصري القديم
باريس ولع سكندري

وعن إسكندرية الموسيقى يتحدث الفنان محمد قدري دلال فيستعرض التاريخ الموسيقي بالإسكندرية وأهم أعلام الفن والموسيقى بها، والمراكز الموسيقية بالمدينة.
وتحت عنوان "باريس ولع سكندري" استعرضت في هذا الكتاب العلاقة بين باريس والإسكندرية في إشارة ضمنية إلى كتاب "مصر ولع فرنسي" لروبير سوليه قائلا في نهاية المقال: إن العلاقات الثقافية بين الإسكندرية وفرنسا، تميزت طوال سنواتها بالدفء والمحبة والتأثير المتبادل، وقد لعبت جهود القنصلية الفرنسية بالإسكندرية، والمركز الثقافي الفرنسي الكائن بشارع النبي دانيال دورا رائعا في إبراز وتمتين تلك العلاقة التي نأمل لها المزيد من التواصل والمزيد من التعاضد لتكون المثل الذي يحتذى في العلاقات الثقافية بين دولتين عريقتين هما: مصر وفرنسا، فمازالت "مصر ولع  فرنسي" ومازالت "باريس ولع سكندري".
ويبدأ د. شريف دلاور مقاله "الإسكندرية .. تحديات المستقبل" قائلا: "لا أعتقد أن الإسكندرية ستعود كسابق عهدها مدينة عالمية متعددة الأجناس والثقافات، فلقد تغيرت ملامحها تماما ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، كما تغير العالم من حولها، وبالتالي فإن اسكندرية المستقبل لن تكون امتدادا لماض بعيد – والذي لا داعي للتباكي عليه أو محاولة اجتراره بطرق اصطناعية لا تتفق مع واقع جديد – إلا أن لا يعقل أن تستمر في وضعها الراهن الذي تراكمت عليه أخطاء عقود مضت". وعليه يقترح دلاور تقليل الكثافة السكانية للإسكندرية للوصول إلى نسبة متوسطة للسكان في الكيلومتر مربع تتفق مع معايير جودة الحياة المتعارف عليها عن طريق الانتقال إلى الغرب خاصة بعد إقامة شبكة الطرق الحديث والممتدة حتى حدود مصر الغربية، وإدخال التقنيات الجديدة في كل أوجه إدارة المرافق العامة بالمدينة.
ويتساءل الفنان عبدالله ضيف: "أين سألعب مع أبناء الجيران؟" متذكرا طفولته عندما داهمت مياه البحر الشارع الذي يقطن فيه في حي الجمرك أو بحري، وارتفعت لتصل للطابق الثالث، وتختفي معالم الشارع، وكان كل هم الفتى الصغير وقتذاك أين سيلعب مع أبناء الجيران؟ 
أما الآن فهو يدرك أن لدى السكندريين طرقهم وثقافاتهم الخاصة في التعامل مع البحر الذي يحيط بهم من الشمال وكذلك البحيرات الكبيرة التي تحيط جانبهم الجنوبي. وهو يطالب بإعادة النظر في علاقتنا بالمياه والأراضي في الإسكندرية، وأن علينا أن نعمل على تطوير ونشر ممارسات مثلى لمواجهة التغير المناخي، وإعادة النظر في علاقتنا بالمياه والأراضي في الإسكندرية. ويشير إلى أهمية التعاون الفرنسي  في هذا المجال عبر نقل الخبرات ودعم الجهود الرامية لنشر الوعي بتلك الممارسات المثلى، عبر تشجيع الاستثمار المشترك في مشروعات المياه والتعامل معها.