مصر.. الإخوان المسلمون وانقلاب 23 يوليو 1952
بقلم: جمال سلطان
هناك حقيقة دامغة لا يملك أي قارئ للتاريخ المصري الحديث أن ينكرها أو يتجاهل حضورها، وهي أن انقلاب 23 يوليو 1952 العسكري كان شراكة بين المقدم جمال عبد الناصر والمرشد العام لجماعة الإخوان الأستاذ حسن الهضيبي، ليس فقط من خلال دعم ضباط الإخوان في الجيش للانقلاب العسكري نفسه، وإنما أيضا من خلال التغطية الشعبية التي وفرها الإخوان وكوادرهم وصحفهم للانقلاب العسكري الذي قاده ضباط صغار مغمورون لا يعرفهم أحد، وأطاحوا فيه بالقيادات العسكرية الرفيعة للجيش المصري واعتقلوهم، وضعوا ضابطا رفعيا كواجهة "محمد نجيب" ونصبوه رئيسا للجمهورية، ثم انقلبوا على رئيس الجمهورية الجديد هو الآخر بعد عامين فقط واعتقلوه ووضعوه تحت الحراسة قيد الإقامة الجبرية .
ما حدث في يوليو 1952 هو انقلاب عسكري في نسخته الكلاسيكية، كما تعرفه مراجع العلوم السياسية وكتبها، ضباط خططوا لاعتقال قيادتهم سرا، وحركوا الأسلحة والدبابات واستولوا على السلطة وعزلوا الحاكم وحلوا البرلمان وحلوا الأحزاب السياسية واعتقلوا عددا من قياداتها وحلوا الحكومة وأوقفوا العمل بالدستور، ونصبوا قيادة عسكرية مؤقتة لحكم البلاد، قبل أن ينجح المقدم جمال عبد الناصر في ترويض بقية زملائه واعتقال الرئيس محمد نجيب، لكي يقفز على منصب رئيس الجمهورية، ويرتب لانتخابات هزلية مزورة بفجور غير عابئ حتى بالمنظر العام، ويؤسس لظاهرة 99% في الانتخابات الرئاسية، وهي البدعة التي أصبحت ـ من بعده ـ نسخة معتمدة في الديكتاتوريات الانقلابية العربية التي انتشرت في سوريا والعراق وليبيا واليمن والجزائر بعد ذلك .
على الرغم من أن الإخوان المسلمين هم أكثر قوة سياسية تعرضت للتنكيل من قبل الانقلاب العسكري في 52، وعلى الرغم من الميراث الضخم الذي ورثوه لنا في كتبهم وشرائطهم وخطبهم ومذكراتهم عن المظالم والجرائم التي ارتكبت في حق الإنسانية داخل السجون والمعتقلات والفساد الهائل وسحق كرامة الإنسان على يد ضباط الانقلاب، إلا أن الإخوان يرفضون الاعتراف بأن ما جرى في يوليو 52 هو انقلاب عسكري، بل إن الرئيس المعزول محمد مرسي عندما خطب في ذكرى انقلاب يوليو، في العام الذي حكم فيه 2012، راح يتغزل في هذا الانقلاب وكيف كان ثورة وطنية مخلصة، قدمت الكثير لمصر وإن تعثرت "بعض الشيء"، وقال ما نصه : (إنّ ثورة 23 يوليو 1952 كانت لحظةً فارقةً في تاريخ مصر المعاصر، أسست الجمهورية الأولى التي دعمها الشعب، والتف حول قادتها وحول أهدافها الستة، والتي لخصت رغبة الشعب المصري في تأسيس حياة ديمقراطية سليمة، وفي استقلال القرار الوطني ودعم عدالة اجتماعية للخروج من الجهل والفقر والمرض، ومن استغلال رأس المال والإقطاع، وكانت بدايةً لتمكين الشعب المصري من تقرير مصيره ودعم تحرّره، وليكون هو بحق مصدر السلطة وصاحب الشرعية)، وهو كلام دعائي فج وكاذب أيضا، وتشعر أن قائله هو القطب الناصري حمدين صباحي وليس الرئيس المنتمي للإخوان المسلمين .
أزمة الإخوان مع انقلاب يوليو هي أزمة أخلاقية بالأساس، لأنهم يعرفون أنهم شركاء في الانقلاب، فإذا اعترفوا بأن ما قام به المقدم جمال عبد الناصر هو انقلاب عسكري، فهذا يعني إلزام الجماعة ـ أخلاقيا ـ بالاعتذار عن تورطها في المشاركة في انقلاب عسكري، أوقف المسار الديمقراطي والحياة المدنية في مصر، ونشر الخوف والقمع على نطاق غير مسبوق في تاريخ مصر الحديثة حتى أيام الاستعمار، بل كان الإخوان في البداية أكثر حماسة لتوجهات القمع والرعب التي نشرها الضباط، بما في ذلك إعدام العمال الأبرياء الذين تظاهروا للمطالبة بحقوقهم، بمحاكمات عسكرية هزلية تمت خلال 48 ساعة فقط فضلا عن سجن المئات الآخرين، ومناشدة الإخوان للضباط الضرب بيد من حديد على "أعداء الثورة" وهو النداء الذي طبقه الضباط عليهم هم أنفسهم بعد ذلك، بعد انتهاء حاجة الضباط لدور الإخوان الشعبوي في التغطية والدعم للانقلاب، حيث قاموا بعدها بتصفية الجماعة نفسها بلا رحمة، ليلقوا بها في غيابات السجون والمنافي .
وافق الإخوان، بل باركوا، بل وناشدوا الضباط، سحق كل القوى السياسية المدنية التي كانوا يعتبرونها منافسة لهم، ظنا أن ذلك سيجعل الساحة خالية لهم وحدهم، بما في ذلك إلغاء جميع الأحزاب وأولها حزب الوفد، بيت الأمة والذي هزم مرشحه مرشح الإخوان الشيخ حسن البنا زعيم الجماعة نفسه عندما واجهه في الانتخابات البرلمانية، فلم تنساها الجماعة، كما باركت الجماعة تكميم الأفواه وسحق الاحتجاجات الشعبية وسجن المعارضين وقتلهم وإعدامهم، بل وطلبت من الضباط أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، باعتبارهم ممن "حاربوا الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا"، على عادة الإخوان في امتهان الآيات القرآنية وتنزيلها في الخلافات السياسية لهم مع خصومهم، كل هذا الميراث الكئيب شاركت فيه جماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي، رغم كل ما نالها بعد ذلك من حكم ضباط "يوليو" إلا أنهم يرفضون الاعتراف بأنه انقلاب، هربا من الاعتذار عن المشاركة في انقلاب عسكري انتهى بخراب مصر، وما زلنا نعاني من دولته التي أسسها حتى اليوم .
الإخوان الذين يعتبرون انقلاب الضباط الشبان في يوليو 1952 ثورة شعبية، هم أنفسهم الذين يعتبرون ما حدث في يوليو 2013 انقلابا، رغم أن الثاني أتى محمولا على طوفان بشري حقيقي في الشارع مهد لقرار الجيش، وهو ما لم يتوفر للأول، ومن العبث أن تسألهم عن "المنطق السياسي" في اعتبار ما جرى في يوليو 52 ثورة، كما قال مرسي، وما جرى في يوليو 2013 انقلابا، لأن المعيار باختصار شديد، هو أن ما جرى في 52 كان بشراكتهم وهم الذين ركبوه في البداية ضد خصومهم السياسيين، وأما ما جرى في 2013 فكان بمشاركة خصومهم، وهم الذين ركبوه في البداية، أي أن المعيار "الأخلاقي" الوحيد لتقييم الموقف هو : لصالح الجماعة أم لغير صالحها .