مصر: جامعو القمامة مليونيرات.. والحكومة تسعى لمنافستهم!

القاهرة - من محمد جمال عرفه
العمل الشاق للاطفال، والارباح لكبار

اعتاد سكان مدينة القاهرة منذ عام 1999 على كتم أنفاسهم في شهري تشرين أول (أكتوبر) وتشرين ثاني (نوفمبر) من كل عام وغلق أبواب وشبابيك منازلهم بإحكام, بسبب ما اصطلح على تسميته بـ"السحابة السوداء", التي تغطي سماء مصر مساء غالبية أيام هذين الشهرين, في صورة ملوثات هواء ودخان, ناتج عن زيادة التلوث في سماء العاصمة, مع استقرار في الهواء الجوي, يمنع صعوده إلى طبقات الجو العليا, فيملأ الجو بهذه الغازات السوداء الخانقة.

ونجحت وزارة البيئة المصرية وهيئة الأرصاد الجوية في تحديد السبب وراء هذه السحابة السوداء, التي تدفع بعض سكان العاصمة, خصوصا مرضي الصدر لهجرها لمدن ساحلية أخرى، وحددتها في عدة ملوثات على رأسها: حرق المزارعين في هذا الوقت من السنة لمخلفات زراعة الأرز (القش)، وحرق القمامة في المقالب العشوائية, التي تنتشر حول القاهرة، فضلا عن مصانع وأماكن أخرى لتصنيع الفحم وغيره.

ومع أن الظاهرة استمرت هذا العام للعام الثالث علي التوالي، إلا أن حدتها خفت بالمقارنة بالأعوام السابقة, نتيجة التعاون بين وزارتي البيئة والزراعة لمنع أو التقليل من عمليات حرق قش الأرز, للاستفادة منه بعد كبسه في "بالات" في الإنتاج الصناعي، لتبقى المشكلة في حرق القمامة, التي يجني من ورائها عدد من كبار جامعي القمامة ثروات طائلة, بحسب ما تؤكد مصلحة الضرائب المصرية، ويطلق عليهم لقب "مليونيرات الزبالة", إذ كشفت ظاهرة السحابة السوداء هؤلاء المليونيرات, ودفعت الحكومة للسعي للاستفادة من هذه الثروة القومية (الزبالة) في تحقيق ربح كبير منها, بدلا من حرقها وتلويث هواء القاهرة بها.

«زبالة» القاهرة تساوي 6 ملايين جنيه سنويًا

وقد كشف خبر صغير نشر في الصحف المصرية منذ بضعة أشهر عن جزء من أرباح جامعي القمامة, أو بعبارة أصح "المعلمين الكبار" المسؤولين عن أماكن جمع القمامة, فقد تصالح أحد "الزبالين" في منطقة العمرانية بالجيزة (جنوب القاهرة) مع مصلحة الضرائب, ودفع لها 200 ألف جنيه (حوالي 50 ألف دولار) ضرائب, وذلك عن نشاطه في جمع "الزبالة" لمدة ثلاثة أعوام عن الفترة من عام 1995 وحتى عام 1998, الأمر الذي أثار التساؤل حول ثروة "الزبالين" الخيالية.

ويقول خبراء بيئة مصريون إن القاهرة وحدها تنتج مخلفات (زبالة) تصل إلى 8 آلاف طن يوميا، يمكن الاستفادة منها بمبلغ لا يقل عن 6 ملايين جنيه سنويا, في حالة تدويرها (سماد أو صناعات أخرى)!. وهذا بالإضافة إلى 30 لتر غاز ميثان متولد من كل كيلوغرام مواد عضوية, وكذلك 600 كيلوواط من الكهرباء, بالإضافة إلى العائد الأكبر, المتمثل في التخلص من المشكلات الصحية الناتجة عن القمامة.

ويضربون أمثلة على استفادة دول أخرى من القمامة, بأن اليابان تحصل على 70 في المائة من احتياجات إنارة المنازل وتدفئتها من القمامة، وفي أوروبا زادت إنتاجية الفدان 30 في المائة عند استخدام المخلفات الزراعية المعالجة كسماد عضوي.

ثروة قومية ضائعة!

وتشير أرقام رسمية مصرية صادرة عن وزارة البيئة المصرية إلى أن حجم القمامة في كل المدن المصرية يتزايد بشكل كبير, عاما بعد عام, خصوصا مع تزايد السكان، وأن ما يتم رفعه من هذه القمامة لا يزيد عن النصف, في حين يظل قسم كبير في الشوارع لا يستفاد منه، وأن حجم القمامة في مصر عام 2000 مثلا بلغ 20.3 مليون طن, ومن المتوقع أن تصل في عام 2016 إلى 30.2 مليون طن.

وهذه الكميات التي تحتوي على مواد صلبة وزجاج وورق, يمكن أن توفر لمصر 9 ملايين طن من السماد العضوي, عن طريق تدوير القمامة لزراعة مليوني فدان, ترتفع إلى 14.5 مليون عام 2016، وأن تنتج 3 ملايين طن ورقًا لتشغيل 3 مصانع, و348 ألف طن زجاج, و336 ألف طن حديد!.

وتحتاج مصر إلى ألف مصنع للسماد, وفقا لدراسات وزارة الزراعة المصرية، الأمر الذي يستوجب تدوير هذه "الزبالة" وتحويلها إلى سماد. وقد أعلن بالفعل عن بناء 26 مصنعًا لإنتاج السماد من المخلفات العضوية في المحافظات المصرية المختلفة، بيد أن غالبيتها لا يعمل بكفاءة, أو معطل, إذ يعمل عشرة منها بالفعل فقط. ويمكن أن يستفاد من هذه القمامة في إنتاج 415 طنًا من حديد التسليح, و110 آلاف طن بلاستيك، والاستفادة من هذه النفايات في صناعة الأعلاف, لتوفير 2.6 مليون فدان تزرع "برسيم" سنويا لتغذية أكثر من 8.6 مليون بقرة وجاموسة.

وهو ما يعني في النهاية - وفق ذات التحليل الرقمي - تحقيق عائدًا قدره مليار جنيه مصري تقريبا, وتشغيل 250 ألف شاب، وبالطبع رفع المستوى الصحي, وتجنب أمراض خطيرة تكلف وزارة الصحة المصرية 600 مليون جنيه سنويا.

الأفلام المصرية تصور «الزبال» مليونيرا

ومع أن مهنة "الزبال", أو جامع القمامة, يتداولها المصريون من باب السخرية على أنها أقل المهن شأنا، ويقال للطلبة الفاشلين إنها ستكون مصيرهم، فقد صورت الأفلام المصرية أصحاب هذه المهنة, وبمعنى أدق أصحاب أماكن تجميع القمامة (الزرائب) على أنهم "مليونيرات" في عدد من الأفلام, بالنظر لما ينشر عنهم حول مطاردة مصلحة الضرائب لهم، وكل "معلم" كبير صاحب مقلب لتجميع القمامة, على أنه يركب سيارة "آخر موديل" ويلبس أفضل الثياب. وكان أشهر هذه الأفلام فيلم "انتبهوا أيها السادة", للفنان محمود ياسين.

ومع أن أفقر "الزبالين" أو العمال العاملين تحت سطوة "المعلمين" ينفون أنها مربحة لهذه الدرجة، وأن وسائل الإعلام والأفلام تبالغ، إلا أن الحقيقة تظهر أن هناك تنافسا متزايدا بين "المعلمين" والعاملين في هذا المجال, على دخول المنافسات أو المزايدات, التي تعقدها الأجهزة الحكومية المصرية لجمع القمامة من أماكن معينة, وهو ما يعني أنها مربحة بالفعل.

إذ أن فرز القمامة يجري وفق أسلوب معين, بحيث يتم جمع كل صنف على حدة, فيتم جمعها فضلات الخبز وحدها, إذ يأخذها أصحاب مزارع تربية الخنازير, والبلاستيك وحده لتذهب لمصانع بلاستيك, والحديد لمصانع الحديد, والورق للسماد, وهكذا.

وتعتبر منطقة "الزرايب" في منشأة ناصر شرق القاهرة أكبر "مقلب زبالة" في القاهرة, ويتردد أنها تدر على أصحابها مكاسب مادية كبيرة, لأن بها أكبر محتكري تربية الخنازير على فضلات القمامة وبقايا الطعام.

وهناك نوع آخر من جامعي القمامة (قطاع خاص) يسمى "الزبالين التقليديين", الذين يجمعون القمامة من المنازل والأحياء, ولا يزالون يسيرون بسياراتهم التقليدية الخشبية القديمة في شوارع القاهرة القديمة, وهؤلاء يتفقون مع أحد التجار الكبار لتوصيل القمامة إلى المكان, الذي يحدده لهم, مقابل مبلغ مالي بسيط, مقارنة بما يحصل عليه "المعلم" الكبير, لكي يفرزها بمعرفته, ويبيع ما يصلح منها إلى المصانع, التي تعيد تدويرها مرة أخرى, وإرسال الباقي للمدفن دون أي مقابل مادي.

وقد بدأ بعض جامعي القمامة في شراء سيارات نقل كبيرة بدل السيارات الخشبية لجمع القمامة من المنازل, لتختفي تدريجيا السيارات التقليدية الخشبية, التي تقدر بعض (المصادر الحكومية عددها بحوالي 700 عربة.(ق.ب)