مطالب الشعوب

مطالبة الشعوب بالصبر لعدة سنوات حتى تثمر المشاريع التنموية انما تزيد من الفقر وتطيل أمد المعاناة.

المظاهرات المنتشرة في الجزائر والعراق ولبنان تشير الى ازدياد مستوى الوعي بين هذه الشعوب فهي جميعا تعاني من الفقر النسبي، والمقصود بالفقر النسبي هو بالمقارنة مع غيرها من دول العالم، ففي حين يبلغ متوسط الدخل الفردي في دولة جنوب السودان 225 دولار في السنة، نجد أن متوسط الدخل الفردي في عام 2019 حسب تقديرات صندوق النقد الدولي هي 4368 في الأردن، 6117 دولار في العراق و3005 في مصر و4646 في الجزائر و12993 في لبنان ولكل شعب حساباته، فلبنان أفضل حالا من غيره من الدول العربية، ولكنه يدرك أن المقومات الاقتصادية في لبنان تؤهلهم لمستوى معيشي أفضل، أما مصر والأردن والعراق والجزائر فهي في مشكلة حقيقية، بعيدا عن المقارنة فهذه المداخيل تكفي للماء والكهرباء والسكن والمواصلات ثم لا يبقى شيء للطعام والتعليم والعلاج، فإذا قسمنا 4000 على 12 شهرا يكون الحاصل 333 دولار للفرد في السنة، والذي يجري عمليا هو أن الأسرة تختصر حاجات من هنا وهناك لكي توفر شيئا للطعام والعلاج والتعليم، مما يعني أن طعامهم لا يتعدى الخبز والفول، ولنا أن نتصور كيف يكون وضع الأسرة في الشتاء وربما ينخفض عدد مرات الاستحمام الى مرة كل أسبوعين.

إن جميع الدول العربية تعيش وقفا لنظام الاقتصاد العالمي وهو التجارة الحرة وحرية التصدير، وهذا يعني أن على الدول العربية وغيرها من دول العالم الثالث أن تدخل المنافسة العالمية، وتنتج وتبيع، وقد فشلت فشلا ذريعا وظلت هذه البلاد في حالة خمول حتى لم يبق لديها شيء تتاجر به، فهي ليست بلاد زراعة ولا صناعة، ومع ذلك تكثر فيها مراكز التدريب على الابتكار والإدارة المؤسسية والتسويق، فأين هو الانتاج الذي يحتاج الى تدريب على الابتكار؟ إن التدريب يأتي بعد قيام قطاع الصناعة والزراعة، حيث يسعى الصانع والزارع الى الابتكار وأساليب التسويق الحديثة، فماذا لديهم لكي يبيعوا؟ وهذا لا ينفي أن كثيرا من الناس حاولوا الدخول في معترك التنافس ليصنعوا بعض المنتجات، لكن أغلبها خسر وأقفل أبوابه، وقد ينجح البعض في مصانعهم، لكن المنافسة القادمة من البضائع المستوردة تجعل ربحهم ضئيلا ولا يستحق الجهد المبذول، حيث أنها أفضل جودة وأقل سعرا.

في ضوء هذا الوضع، يراجع الناس أوضاعهم، فيجدون كبار التجار الذين يستوردون ويبيعون من غير إنتاج أكثر ثراء، ويجدون المسؤولين أكثر ثراء من خلال نهب المال العام، كما أنهم يجدون الفرق بين الرواتب عظيما دون مبرر، ناهيك عن أن البعثات والوظائف الجيدة حكر على أبناء المسؤولين، فخرجوا في مظاهرات تطالب بحقوقهم وتنادي بمحاسبة الفاسدين. وقد نجحت مصر بالفعل برفع مرتبتها من 141 الى 134 وارتفع معدل الدخل من 2000 في عام 2018 الى 3005 في عام 2019 (هذا على اعتبار أن الأرقام صحيحة) ولكن هذا الانجاز المصري استغرق 8 سنوات لأنه اعتمد على مشاريع حقيقية لم تؤت أكلها الا بعد عدة سنوات، وقد تحمل الشعب وصبر، والأمر ينطبق على السودان حيث كان معدل دخله الفردي 2967 دولار في عام 2017 ثم انخفض الى 795 في عام 2019، وهذا يعني أن على الشعب السوداني الصبر والتحمل مثل مصر.

إذن فمهمة تحسين الاقتصاد والقضاء على الفقر مهمة شاقة جدا وتحتاج الى سنوات من الصبر والمعاناة، وأقصر الطرق للتخفيف عن الشعوب والحكومات هو إعادة المال المنهوب وتخفيض رواتب المسؤولين، ومن ثم الانطلاق الى تنفيذ المشاريع التي تدر دخلا على الدول، أما مطالبة الشعوب بالصبر لعدة سنوات حتى تثمر المشاريع التنموية فهي تزيد من الفقر وتطيل أمد المعاناة، وما هو المانع من إعادة هيكلة الرواتب؟ وما هو المانع من جلب الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة؟ لا يحتاج الأمر إلا للمكاشفة بالأسماء وتحديد الحادثة التي تمت السرقة فيها وكيف حدثت. وهذا يتطلب شجاعة وقيادات شعبية واعية وذات تأثير، أما الوضع القائم فهو يجعل الناس أمواتا وهم على قيد الحياة.