معايير الحياد الصحافي مجمدة في أدراج المصالح

إذا كان معيار الحياد تفسره المصالح عند أشهر الصحف العالمية، فالسؤال لا يحتاج إلى انتباه عميق عندما يتعلق بصحافتنا العربية، فمعيار الحياد موضوع في أدراج الحكومات منذ سنوات طويلة.
الصحافي قد يكون مثاليا في التنظير، لكنه أيضا إنسان خاضع لأهوائه في الواقع

لن تتردد وسائل الإعلام بإعلان الحياد في خطابها باعتباره أقدس المُثل، ولن تتوانى في التعريف عن نفسها بأنها تقدم أخبارا مجردة من أي انحياز، دون خوف أو تفضيل، بغض النظر عن تأثير الحزب أو الطائفة أو المصالح التجارية أو رغبة الممولين.

ولا توجد وسيلة إعلام اليوم لا تعلن بأن معايير الاستقلال هي حجر الأساس في طبيعة خطابها. في المقابل لم تخفت قوة السؤال الأهم عن الحياد، ماذا يعني ذلك في الممارسة الفعلية؟

إن الإجابة مصدر كبير للخيبة بنظر المتابعين، وأن الجمهور صار يتهكم على فكرة الإعلان المستمر والمتواصل عن الحياد، بينما يضع المحتوى الإعلامي على طاولة مشرحة الوعي البسيطة ليكتشف الانحياز المريع.

صحيفة مثل نيويورك تايمز تمتلك تاريخا باهرا، ومنذ عام 1896 لا تمل من القول إن محرريها يعملون بجد في ترك آرائهم الشخصية جانبا ويقرؤون الأحداث بعقل مفتوح، وأن مراسليها في جميع أنحاء العالم يتخذون تدابير دقيقة في حياتهم الشخصية ليظلوا موضوعيين في عملهم.

لكن الواقع المنشور ليس مثاليا في نيويورك تايمز التي نعدها مثالا تاريخيا في الصحافة، فهذه الصحيفة ليست محايدة وفق التقويم المفرط بالتفاؤل عندما يتعلق الأمر بأحداث العالم العربي مثلا، وأيضا هي غير محايدة عندما يتعلق الأمر بمصالح مع حكام عرب فاسدين أو دكتاتوريين. العراقيون والفلسطينيون والسوريون والليبيون والمصريون ضحايا لخطاب نيويورك تايمز السياسي. والإيرانيون أيضا عندما يتعلق الأمر بمصالح أميركية مع النظام الثيوقراطي الكهنوتي الإيراني، ذلك ما يدركه القارئ بشكل طبيعي.

إذا كانت معايير الحياد تفسر وفق المصالح عند أشهر الصحف العالمية، فالسؤال لا يحتاج إلى انتباه عميق عندما يتعلق بصحافتنا العربية، فمعيار الحياد موضوع في أدراج الحكومات منذ سنوات طويلة.

ينصح المخلصون لجوهر الصحافة، المحررين بشكل دائم في البحث عن وجهات نظر قد تكون مخالفة لآرائهم. والاحتفاظ بتصوراتهم المسبقة. لكن مثل هذا الأمر لا ينجح دائما، لأن الصحافي قد يكون مثاليا في التنظير، لكنه أيضا إنسان خاضع لأهوائه في الواقع.

كان كلام المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية الأسبق مارك تومسون حول قواعد الحياد، ملفتا قبل أن ينتقل إلى رئاسة تحرير صحيفة نيويورك تايمز عندما وصف فكرة الحياد بالقديمة ولا مكان لها اليوم في مجتمع الفضاء الإلكتروني والإعلامي المفتوح على الإنترنت، وطالب وقتها بالتخلص من قواعد الحياد التلفزيونية القديمة لاستقطاب المشاهد في عصر الإنترنت، اليوم تومسون في قمة هرم نيويورك تايمز التي ترفع شعار الحياد كمبدأ مقدس!

تستبعد ماجي أستور المراسلة السياسية لصحيفة نيويورك تايمز أن يكون بمقدور الإنسان عدم الانغماس في السياسة، لكنها تفكرا كثيرا عندما يتعلق الأمر بطبيعة عملها تقول “عندما أفكر بإجراء حوار مثلا، أسأل نفسي مرارا هل سأطرح السؤال بهذه الطريقة أم تلك، وأيهما أبعد عن إعلان رأيي المسبق بالوقائع، إلى أن أصل إلى الإجابة المقنعة لأعيد صيغة إطلاق السؤال”.

من المفيد هنا الاستفادة من رأي ماجي أستور، بعد الجدل الذي رافق الحوار الأخير لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر مع قناة الشرقية الفضائية، فقد فشل المحاور، لسوء حظ الصحافة، في استثمار الاعتراف الأكثر طلبا في وسائل الإعلام وحوله إلى مزحة! بعد إعلان الصدر عن دور ميليشيات جيش المهدي في تفجير المفخخات واستعداده إلى إعادتها من جديد.

كم كان يترتب على المحاور أن يؤسس على هذا الاعتراف المفيد من أسئلة؟ أسئلة لا تجعل المحاور كمن يدافع عن الصدر ويجنبه السؤال الأهم مقابل الاعتراف الأهم الذي أعلنه، ذلك ما خذل الجمهور فيه مثلما خذل جوهر الصحافة.

مع ذلك علينا أن نقدر صعوبة المهمة التي قام بها المحاور لمقتدى الصدر، فهو صحافي وحيد بين ميليشياته ومن دون حماية، ويدرك المحاذير المترتبة على كل ذلك، المجازفة في مثل هذه المواقف لا تعادل حياة الصحافيين. تلك هي معضلة الصحافة اليوم. في العراق تحديدا.

في النهاية انتهاك حرية الصحافة لا يتعلق بإخفاء شيء يعتقده الصحافي، أو حجب الحقيقة عن الجمهور فقط، إنها مرتبطة بالثقة أكثر، طموح أي صحافي أن يثق به الجمهور، ذلك ما يعني قمة النجاح.

سبق وأن تساءل السير ألان، الذي أصبح أول رئيس لهيئة معايير الصحافة المستقلة في بريطانيا عام 2014، عن كيفية تطبيق قواعد أكثر صرامة “هل لديك قانون يقول عليك أن تكون مثل هيئة الإذاعة البريطانية في الذوق والتوازن واللياقة؟ أعني، أي نوع من القواعد يمكن أن يقال لصحيفة ’ألا تكون قاسية؟'”.

ثمة قصة تاريخية يتداولها الصحافيون البريطانيون كلما أرادوا الدفاع عن حريتهم حيال تغوّل الحكومات ومحاولة السيطرة على الصحافة، يبدو من المناسب العودة إليها مرة أخرى. ففي عام 1854، وخلال حرب القرم، أرسل مراسل صحيفة التايمز ويليام هوارد راسل، قصة خبرية كشفت أن الجنود البريطانيين كانوا يعيشون في ظروف قاسية، والمعدات الطبية غير كافية، والفوضى تكتنف إدارة الجيش. استشاط غضب حكومة لورد أبردين في عهد الملكة فيكتوريا آنذاك، واتهمت المراسل روسل ورئيس تحرير التايمز جون ديلان بضعف الحس الوطني عند نشر خبر ينتهك الأمن القومي. لكن محاولة إدانة المراسل وتشويه سمعة الجريدة فشلت، عندما توافد البريطانيون للتبرع بالمال للحصول على الإمدادات الطبية لدعم الجيش. وتلت ذلك تظاهرات عنيفة ضد الحرب أدت إلى انحسار حكومة أبردين بعد خسارتها الثقة.

لماذا حدث كل ذلك؟ قد نجد ما يشبه الإجابة عندما يتعلق الأمر بمحاورة مقتدى الصدر مثلا، فيما يغيب السؤال الأهم الذي ينتظره الجمهور.