مقاربة ألمانية تمزج بين البعدين الأمني والعلمي لكبح تنامي التطرف

برلين تبذل مجهودات مضنية في إعادة تأهيل المتشددين اليمينيين وانتشالهم من براثن التطرف العالقين فيها.
اليمين المتطرف بات أخطر من التيارات الإسلامية المتشددة في ألمانيا
جهود ألمانية لا تهدأ لفهم علمي لدوافع تطرف اليمينيين
ألمانيا تؤسس برنامج إيكاروس لإعادة تأهيل المتطرفين اليمينيين
ألمانيا رصدت 35 مليون يورو لدعم البحث العلمي لمواجهة التطرف والكراهية

تراهن ألمانيا على البحث العلمي لكبح تمدد مجموعات اليمين المتطرف وانفلاتها على الرغم من حظرها لعدد كبير منها وقصقصة مصادر تمويلها وتعقبها عبر مقاربة أمنية لم تنجح إلى حد ما في تقليل خطر تلك المجموعات، إذا لا يزال ارتفاع جرائم الكراهية والعنصرية يؤرق السلطات الألمانية ويهدد المؤسسات الديمقراطية والسلم المجتمعي في بلد لم يتجاوز بعد صدمة الحقبة النازية.

تسعى ألمانيا إلى محاصرة تنامي التطرف اليميني عبر مقاربات مختلفة يتمازج فيها البعد الأمني الاستباقي بالبعد العلمي الاجتماعي، في وقت يؤكد فيه الساسة في برلين أن اليمين المتطرف بات أكبر تحد يواجه البلاد حيث تفوق خطورته التيارات الإسلامية المتشددة.

وإلى جانب الإمكانيات اللوجستية الهائلة والترسانة القانونية الصارمة في مواجهة العنصرية والكراهية وهي أحد أهم الجرائم التي تجمع التيارات اليمينية المتطرفة، تبذل برلين مجهودات مضنية في إعادة تأهيل المتشددين اليمينيين وانتشالهم من براثن التطرف التي علقوا فيها.

وتسعى برلين إلى المزيد من تعزيز هذه الجهود عبر برامج بحثية لفهم أفضل لكيفية عمل الظاهرة المتطرفة وبالتالي التعامل معها بشكل أفضل مبني على معطيات بحثية دقيقة.

ورصدت برلين مؤخرا 35 مليون يورو لدعم البحث العلمي في موضوع معاداة السامية والعنصرية وكراهية الأجانب.

ولأن الوقاية خير من العلاج تتطلع الحكومة الألمانية عبر البحوث العلمية إلى فهم أفضل لظاهرة التطرف اليميني وسياقات تفاعلها لمحاصرتها بشكل أكبر، ما يساهم في إضعافها.

ومن أجل ذلك وضعت برلين أيضا برنامجا لإعادة تأهيل المتطرفين اليمنيين أطلقت عليه اسم "إيكاروس" وهو برنامج تطوعي يتضمن منهجية علمية للأشخاص الذين يريدون التخلص من التطرف.

اليمين المتطرف يفاقم الخطر في ألمانيا
اليمين المتطرف يفاقم الخطر في ألمانيا

برنامج إيكاروس

يتعين على الأشخاص الذين يطلبون المساعدة من أجل الانسحاب من مشهد تيار اليمين المتطرف، الموافقة على اتباع 17 قاعدة واضحة وصارمة، من بينها عدم المشاركة في مظاهرات أو تنظيمات أو تجمعات، مع أعضاء هذا التيار، وعدم التواصل معهم.

وفي مقابل الموافقة على هذه التعليمات، يقدم لهم برنامج "إيكاروس" بولاية هيسه، في وسط ألمانيا، مجموعة من الخدمات اعتبارا من المساعدة على العثور على عمل إلى التعامل مع الإدمان، وتشير مديرة البرنامج ماريون هوهمان إلى أنه في معظم الحالات يكون سلوك الشخص نابعا من جذور مسار حياته.

وتمثل كلمة "إيكاروس" الحروف الأولى من عبارة "مركز المعلومات والجدارة للمساعدة على الخروج من التطرف اليميني".

وتقول هوهمان إنه المركز الوحيد على مستوى ألمانيا الذي يخضع لولاية الشرطة، ما يمثل ميزة، حيث إنه يمكن بشكل مباشر فحص جميع المعلومات المتعلقة بالجرائم.

وتضيف "يمكننا أيضا أن نتيح الأمن والحماية إذا كان لدينا شخص مصنف على أنه معرض لخطر أو تهديد"، ولكنها أردفت بأنه من النادر للغاية أن نجد شخصا كان ينتمي إلى تيار اليمين ويحتاج إلى الحماية.

وشهد المركز زيادة في الطلب على خدماته خلال الأعوام الأخيرة، بفضل تزايد الوعي بين المؤسسات التي تتعامل مع الأفراد الذين يمكنهم الاستفادة منه مستقبلا، مثل مجالس الإفراج المشروط عن المسجونين، وهيئات محاكم الأحداث. وتوضح هوهمان أن الشرطة يمكنها أيضا الاتصال مباشرة مع الأعضاء المشاركين في البرنامج، وتقول "نادرا ما يغلق الباب في وجوهنا".

ويقول المشرفون على "إيكاروس"، إنه منذ تأسيسه قدم البرنامج المساعدة لنحو 80 شخصا لتشجيعهم على الانسحاب من مشهد التيار اليميني، ويتلقى قرابة 20 شخصا في المتوسط خدمات البرنامج في نفس الوقت، وتتراوح أعمار معظمهم بين 20 و35 عاما، وهذا المتوسط في ازدياد حاليا، والمترددون على البرنامج هم في الأساس من الرجال ذوي المؤهلات التعليمية منخفضة المستوى وهم غالبا من العاطلين، ويأتي الكثير منهم من أسر مفككة، حيث يكون الأب في الغالب غائبا أو عنيفا مع أفراد أسرته.

أصوات مضادة لمكافحة الخطابات المعادية للسامية

 

غير أن هذه الأحكام تتسم بالتعميم، حيث يوجد أشخاص ينتمون لليمين تزيد أعمارهم عن 60 عاما، كما يوجد طلاب أو حاصلون على شهادات جامعية.

المتطرفون اليمينيون يعتنقون أفكارا معادية للمهاجرين والأشخاص غير المنحدرين من أصل ألماني ويعادون المؤسسات، وتقول هوهمان "لدينا الكثير من الزبائن الذين يعانون من إدمان الكحوليات أو المخدرات".

وتوضح أن هناك حالتين من الانتكاس بين المشاركين في البرنامج، وعودتهم إلى نشاطهم السابق وارتكابهم مخالفات لشروطه، كما يوجد أشخاص خرجوا من البرنامج كلية أو اضطروا إلى تركه لأنهم خالفوا قواعده.

ويعد التدريب على تقويم الشخصية جزءا من البرنامج، الذي يتضمن أيضا تقديم المساعدة المالية لتغيير أو إزالة الوشم المرتبط بمشهد التيار اليميني، ومقابل ذلك يمكن لمتلقي هذه المساعدة العمل، على سبيل المثال، في نصب تذكاري لضحايا المحرقة.

وزادت أهمية برنامج "إيكاروس" بعد أن حذرت وكالة الاستخبارات الداخلية في ولاية هسه عام 2019، من تصاعد موجة العنف من جانب التيار اليميني، وكذلك من قبل الأعضاء المنتمين إليه، وبعد مرور بضعة أشهر فقط على هذا التحذير، وقع في فبراير 2020 هجوم بدوافع عنصرية، أسفر عن مقتل تسعة أشخاص من أصول أجنبية ببلدة هاناو بولاية هسه.

ويشير تقرير الوكالة الأمنية إلى التزايد بدرجة كبيرة، في أعداد المتطرفين داخل التيار اليميني، المصنفين على أنهم يميلون للعنف أو على استعداد لارتكاب أعمال عنف، أو الذين يدعمون العنف ويدافعون عنه، وذلك مقارنة بالعام السابق، ليصل عددهم إلى 840 شخصا، مما يمثل زيادة قدرها 160 شخصا.

وسلطت الأضواء أيضا على البرنامج، وذلك بعد قيام متطرف يميني باغتيال أحد الساسة في مدينة كاسل، وتردد أن المتهم، ويدعى ستيفان إيرنست والذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة، كان على اتصال مع برنامج "إيكاروس".

وإلى جانب "إيكاروس"، هناك مبادرات وخدمات أخرى في الولاية للحيلولة دون وقوع ضحايا وأيضا من أجل تقديم الاستشارة لهم، وهناك 280 حالة لأفراد يتلقون استشارات بعد وقوعهم ضحايا للعنصرية أو التطرف اليميني عام 2019، حيث تعرضوا أساسا للعنف أو التهديدات أو الإهانات.

وترى هوهمان أن الأفراد لا ينضمون إلى مشهد التيار اليميني نتيجة اعتقادات أيديولوجية، وإنما من أجل البحث عن الأمان أو الاعتراف بقيمتهم أو التقدير أو الحماية، كما أن هذا التيار يزودهم بإجابات بسيطة لتساؤلات اجتماعية معقدة.

وعادة ما يلجأ المتطرفون اليمينيون إلى برنامج "إيكاروس" عندما يتعرضون للضغوط، سواء احتمال تعرضهم للسجن أو فقدان الوظائف، أو انهيار علاقاتهم مع شركائهم في الحياة، ولا يتعين على من يلجأ للحصول على مساعدة البرنامج أن يفصح عن أسماء زملاء آخرين في التيار اليميني، أو عما ارتكبه من جرائم في الماضي، كما أن المشاركة في البرنامج طوعية تماما. وفي هذا الصدد تؤكد هوهمان "نحن لا نقوم بعملية غسل للعقول".

تنامي أفكار معاداة السامية والأجانب تتسبب في خوف الشارع الألماني من العودة للحقبة النازية
تنامي أفكار معاداة السامية والأجانب تتسبب في خوف الشارع الألماني من العودة للحقبة النازية

البحث العلمي

تعتزم الحكومة الألمانية دعم البحث العلمي في موضوع معاداة السامية وكذلك التشدد اليميني والعنصرية بإجمالي 35 مليون يورو، تزامنا مع تحديث ترسانتها القانونية الردعية في مواجهة هذه الجرائم المتنامية التي باتت تؤرق الساسة الألمان كما أجهزة الاستخبارات.

وقالت وزيرة البحث العلمي بألمانيا أنيا كارليتسك الأسبوع الماضي "الحياة اليهودية، للأسف لا بد من قول ذلك، مهددة في ألمانيا على نحو لم تشهده منذ فترة طويلة مضت".

وتابعت الوزيرة الألمانية "إننا بحاجة لمعرفة متعمقة، كي نتمكن من مكافحة العنصرية ومعاداة السامية بشكل فعال".

وتستند هذه المشروعات جزئيا إلى إرشادات تمويل تم نشرها العام الماضي، وفي جزء آخر إلى لجنة مجلس الوزراء لمكافحة التطرف اليميني والعنصرية. وبحسب الوزارة، سيتم إطلاق المشاريع البحثية ذات الصلة خلال هذه الأيام.

وأضافت الوزيرة الألمانية أن الأموال متوفرة بالفعل بغض النظر عن نتيجة الانتخابات البرلمانية المنتظرة في سبتمبر/أيلول القادم.

ومن المقرر أن يستكشف باحثون بهذه الأموال نوعية أشكال معاداة اليهود الموجودة بالمدارس مثلا، كما أنه من المقرر أن يسهم مشروع آخر في تطوير "أصوات مضادة لمكافحة الخطابات المعادية للسامية” بالنسبة إلى الشباب على الإنترنت في الوسط الناطق باللغة الألمانية.

وتزامنا مع مساعي ألمانيا لفهم علمي لدوافع مثل هذه الجرائم واتخاذ خطوات استباقية في مواجهتها فكريا، تعتزم السلطات أيضا تعزيز ترسانة قوانينها الردعية في مواجهة ذلك.

ومؤخرا كشفت تقارير صحافية أن الكتل البرلمانية للائتلاف الحاكم الألماني، المكون من التحالف المسيحي المنتمية إليه المستشارة أنجيلا ميركل والحزب الاشتراكي الديمقراطي، اتفقت على إجراء تعديل في قانون الجنسية.

وذكرت صحيفة بيلد الألمانية أنه بموجب هذه الخطط، ستؤدي أي إدانة بارتكاب جريمة معادية للسامية أو ذات دوافع عنصرية إلى الاستبعاد من التجنس، كما سينطبق ذلك على أحكام الإدانة بجرائم معادية للسامية المصنفة على أنها جنح بسيطة.

وقال خبير الشؤون الداخلية في الحزب المسيحي الديمقراطي ماتياس ميدلبرغ "تشديد قانون الجنسية مهم لمنع تجنيس المعادين للسامية أو العنصريين في المستقبل"، مضيفا أنه لا يجوز لأي شخص أدين بجريمة معادية للسامية أو عنصرية أو كراهية ضد الأجانب أن يصبح مواطنا ألمانيا، مشيرا إلى أن هذا سينطبق أيضا في المستقبل على الانتهاكات الطفيفة للقانون.

وأوضح ميدلبرغ أن التحالف المسيحي يريد بذلك تطبيق تبعات "لأعمال الشغب المعادية للسامية التي لا تطاق"، التي شهدتها البلاد في مايو/أيار الماضي، وقال "إذا كان وجود دولة إسرائيل شأن مهم للدولة الألمانية، فيجب في كل الأحوال أن يكون ذلك أمرا واضحا في قانون الجنسية".

وسجلت ألمانيا ارتفاعا كبيرا في عدد المتطرفين اليمينيين في 2019، وأفاد تقرير أعدته هيئة حماية الدستور الألمانية (المخابرات الداخلية) أن عدد المتطرفين اليمينيين في البلاد بلغ 32.080 ويمثل هذا الرقم زيادة تقارب 8000 فرد مقارنة برقم 24.100 المسجل في 2018.

ويتبنى النازيون الجدد، وهم يمينيون متطرفون يعتبرون أنفسهم امتدادا للنظام النازي الذي حكم ألمانيا بين 1933 و1945، شعارات الأيديولوجية النازية مثل الصليب المعقوف، ويعتنقون أفكارا معادية للمهاجرين والأشخاص غير المنحدرين من أصل ألماني.

ويعكس الجدل بشأن العنصرية في ألمانيا جدية المخاطر المحدقة بالمجتمعات الأوروبية متعددة الثقافات والأديان والأعراق، لاسيما بعد تنامي المدّ الشعبوي داخل بلدان التكتل التي باتت تسجل أرقاما مفزعة في نسب الجرائم ذات الصلة بالتمييز العنصري وكراهية الأجانب.

وعند النظر إلى الجرائم التي يرتكبها اليمين المتطرف، يتضح وجود جرائم كثيرة جدا، منها هجمات بالقنابل تستهدف اللاجئين والمهاجرين والأجانب والسياسيين، وأعمال تخريب وقتل وتهديد ونشر للكراهية.

وتم حظر العديد من التنظيمات والمجموعات المؤيدة لليمين المتطرف في ألمانيا؛ بسبب الجرائم التي ارتكبتها، إلا أن أغلبها لا يزال يمارس أنشطته.