مقدمات الخراب ونتائجه

حرب غزة محصلة لتفكك الإرادات الوطنية وانتهاء الأمور بأيد قوى سياسية هي فصائل مسلحة خارجة عن السيطرة المركزية أسوة بالكثير من الدول العربية.

في خضم الانغماس العاطفي بتداعيات حرب غزة الأخيرة، وصورها المرعبة التي تتسابق الفضائيات في عرضها علينا، لتضيف الينا المزيد من الألم والحيرة والشعور بالضياع.. اقول في خضم كل هذا لا ينبغي لنا ان نتجاهل الحقائق التي اوصلتنا الى ما وصلنا اليه. فالحصاد المر يدعونا الى مراجعة الزرع، وهل كنا قد سهرنا عليه لينتج لنا ثمرا طيبا ام اننا تركناه في ذمة الريح والغبار لنقطف مرارة الثمر الذي تطعمنا اياه الفضائيات وكإنها تقول لنا، كلوا ما زرعتم!

لقد بدا الاشتغال على تفتيت الدول العربية بدهاء، واستجابت لذلك بعض القوى السياسية الطامحة بالسلطة في البلدان العربية وصارت عونا للمفتتين وذراعا توصلهم الى ما يريدون، حين صار الشعار غير المعلن ومنذ عقدين وأكثر، ان لا جيوش وطنية، لأنها ادوات قمع بيد الحكام. وان كان هذا الرأي يحتمل الكثير من الدقة، لكنه يحمل الكثير من الخطر الذي اندفعنا الى مراتعه المليئة بالألغام ولم نعرف اننا سنتمزق جميعا.

لقد تفتت قدرات الدول العربية بالتدريج على خلفية توجهات القوى المتصارعة فيها، وصار لكل جهة جيش او مجاميع مسلحة تدعي ان لها الحق وحدها في تمثيل الشعب، وان كثيرا منها اصطدم مع بعضه كما حصل في السودان وليبيا وسوريا واليمن، وغيرها حتى اختفت نكهة الجيوش السابقة التي نعرفها، مهما اتفقنا او اختلفنا مع الانظمة التي تقودها، وصارت الفصائل المسلحة ذات التوجهات العقائدية هي البديل للجيوش التي اصبحت فاقدة للتأثير ليس في حماية الحدود الدولية وحسب، بل وفي ضبط المعادلة الوطنية التي اختلت تماما. صارت بلداننا مهلهلة امنيا وسياسيا واقتصاديا، واعين شبابنا مشبوحة الى الخارج تنتظر فرصة للهرب، بعد ان ضاقت بهم سبل العيش في بلدانهم. واصبح الحديث عن الوطنية يثير السخرية لدى البعض وهم يرون الزعماء الجدد المتصارعين على السلطة في اغلب الدول العربية وهم يعطونهم المثل الأسوأ في التعبير عن الوطنية ويأخذونهم الى مستقبل مظلم، فيما يعيشون حاضرا جافا وخاليا من اسباب الحياة التي تستوعب طاقاتهم وتجعلهم اكثر عطاء لأنفسهم ولبلدانهم.

نعم، لقد انتشرت الفصائل المسلحة في اغلب البلدان العربية وصارت هي البديل الحقيقي للجيوش، وقد غذى ذلك وبدهاء ومكر كبيرين مشروع دولي كانت وما زالت رافعته الأولى الأموال العربية، بهدف اضعاف البلدان العربية وجعلها طوائف واعراق متصارعة على السلطة بإسم الاختلاف على حقوق الشعوب وتقويم مسار الواقع السياسي. وقد بلغ هذا مبلغا خطيرا خلال ما عرف بالربيع العربي الذي مثّل بداية الخراب والشروع في تفتيت الدول وفكفكتها وان بقيت تحت مسمياتها القديمة.

غزة اليوم تقاتل اسرائيل، لكن ليس بوصفها ممثلة للسلطة الفلسطينية الموحدة، بل للمقاومة في غزة، والأمر كذلك مع غيرها من القوى المحيطة بإسرائيل. لقد غاب القرار السياسي الذي يجمع كل بلد عربي وحضرت قرارات متعارضة على خلفية الرؤية المختلفة للحل وكيفية التعامل مع اسرائيل. فكانت النتيجة كل هذا الخراب الذي يبدو انه مقدمة اخرى لنتيجة ستكون اكثر مرارة وألما تنتظرنا جميعا، ان بقينا نتعامل مع مشاكلنا برؤى مختلفة ومرتهنين لقناعات عقائدية ابتعدت بنا عن الدولة وابتعدنا عنها لنجد انفسنا جميعا.. في العراء!