مكاشفات البار تنزاح نحو مدائن الضوء واللون

التشكيلي السعودي أحمد عبدالله البار، أحد أهم الأسماء في المحترف التشكيلي السعودي من الرعيل الثالث.
تجربة نابضة بانفعالات وشحنات تعبيرية
البار يلجأ إلى التقنيات المعاصرة في منحاها التفجيري

"إن عين الفنان يجب أن تكون سريعة وحادة، فليس هناك وقت لكي ترمش بعينك، وإلا أصبح الوقت متأخراً". 
تذكرت مقولة فرناند ليجيه هذه وأنا بصدد الإقتراب من عالم الفنان التشكيلي السعودي أحمد عبدالله البار، أحد أهم الأسماء في المحترف التشكيلي السعودي من الرعيل الثالث. تذكرت هذه المقولة حين عرفت أنها تنطبق على البار، فهو الذي لا يرمش له عين حتى يقبض على كل لحظة، وكل ومضة، فهو في حالة فيضان إبداعي مذ أدرك وهج الفن وهي تلفح روحه، فاللون ينساب من بين أصابعه كنهر جارٍ على لوحات ستحمل رائحته، ورائحة ضربات ريشته، حتى تتراكم كمّاً وزمناً، فتشكل تجربته النابضة بانفعالاته وبشحناته التعبيرية، والتي ستنتظم بعنفوانه، وبوعي منه على نحو مكثف في طرح سماتها، وما تشهده من صراعات دائمة بين عناصرها، فهو يسيطر إلى حد بعيد على بيادر مساحاتها أقصد مساحات اللوحة، ولهذا فهو حريص على مواسمه أن تكون مثمرة وناضجة، تتضمن جهداً إنسانياً تشهد له بتواجده في ثنايا ألوانه مهما كانت توترات ريشته عالية.
نعم ليس هناك وقت لترمش للبار عين وإلا فمن أين يأتي كل هذا النشاط الكثيف، فجعبته حافلة بالإنجازات، وله مشاركات في أكثر من 150 معرضاً تشكيلياً داخل المملكة العربية السعودية، وأكثر من عشرين مشاركة خارج المملكة (فرنسا، الأرجنتين، أذيربيحان، إيران، سوريا، الإمارات، المغرب، تونس ... إلخ)، إضافة إلى معارض فردية كلها مرتبطة بأبجديته التي يشتغل عليها والتي تغتسل بضوء التعبيرية حيناً وحيناً بضوء التجريد، وحيناً أخرى بتجريدية مستحمة بالتعبيرية، فهو لا يخرج من جلباب المدارس بعد، ففي كل مرة يحاول الظهور بمجموعات جديدة لها سياقاتها الخاصة والتي تختلف بطقوسها وبخلق المعادل الموضوعي لها، فالبار على تواصل تام مع أحلام تسكن فيه، ويسافر إليها باللون علّه يلتقط ملامحها غير القابلة للترجمة إلا بهندسة حساباته وما يسقطها في مفاهيمه التراثية التي يظهرها فيما بعد على نحو ملحوظ في جلّ أعماله.
هو في حالة من الحوار الذي لا ينتهي سواء مع ما يثيره ويستفزه، أو مع ما يساعده في تسكين القلق النائم بين خلجاته، في حالة من الحوار الذي يجعله يسافر بوداعة ناسك قادر أن يحقق حالة من التوازن بين البؤر المشتعلة والمحراب الذي يبحث عن السجود فيه، فالبار وفي هذا التوازن الذي أشرنا إليه يزاوج بين اللون ومساراته من جهة، وبين الخطوط ومخارجها من جهة ثانية، وبين البؤر والخلفيات من جهة ثالثة، وهذا ما يتماهى مع احتوائه لكل محاولاته ومداها دون أن يكف في لجم كل ما يحاول النفاذ إلى خبايا اللوحة، يتماهى مع رؤيته للفن والتي بها يستعيد بعض إستقراءاته الغزيرة والمتنوعة في الظاهر وفي الباطن معاً.

بديناميكية حاذقة ومتناغمة في الوقت نفسه يلجأ البار إلى التقنيات المعاصرة في منحاها التفجيري، فالمخزون لديه هائل، وليس بمقدوره إنحباسه ولو لحين، فلا بد من الينابيع أن تشق طريقها من بين صخوره، وتفتح مجراها على نحو مغاير تماماً، على نحو شلالات لونية تنثر رذاذها كشواهد جمالية، وكأنها إحتفاءات لونية تنبثق من مسالك ملتفة في الفضاءات تشكل تكوينات تجريدية فيها يبرز نسيج تجربته وتمزقاتها الداخلية الأقرب إلى الحزم القزحية المتراكمة والمحتشدة في أفقه المحكوم بالجمر الذي يغلي فيه، فالبار لديه من التوجهات ما يكفيه لملاحقة كل الظواهر التي قد تلد على الطريق، فيلتقط القضايا وسفرها، ويبتدع مفاهيم تنوب عنه في حضرة إستشراف العصر وما فيه من صخب وعويل، كما يبتدع مقولات تخطو إلى الأمام، نحو مراحل فيها تتفاقم التناقضات بين مثله الأعلى حيث القيم الإنسانية والجمالية في سقفها الأعلى، وبين تلك التي تختصر الكثير من المراحل بمآسي وآلام الناس، فهو بالفعل والفاعل والمفعول به وبنقاء نفسي يلتفت إلى ما يبهر متلقيه، فهو لا يرسم إعتباطاً، ولا فراغاً يشغله بمكنوناته، بل يرسم للإنسان كأساس الأعلى الجمالي للفن، كغاية للحياة، وهذا ما يجعل تدفقاته أغزر وأعذب. وهو ما يجعل إنفعالاته تسبق أصابعه، أي أنه يتنفس من خلال أحاسيسه المرهفة والتي تسبقه لملء فراغات لوحته دون أي إستهلاك لها في غير موضعها. 
رغبته الدائمة تسبقه إلى مزاجة ألوانه والتي بدورها تترجم على البياض لتبوح عنه ما لم يستطع هو البوح به شفاهة، دون أية عملية معقدة، فلحظات الإندفاع للبوح تتجلى في رجع الصدى لقاعه الذي فيه يتلاشى سيزيف وبالتالي يتلاشى رفع الحجارة للسماء، كما يتلاشى المسار الطافح بالغبار، فتنكشف الإستيهامات بدلالاتها وهي تحشد في عوالمه المأهولة بالغرابة وإيماءاتها، المتزامنة مع إنشغالاته ومدركاتها، فالبار يحول الأشياء المعزولة من سياقاتها إلى الجدل الممكن بين مفرداتها وهي تتخطى مأواها، وكأنها ترتاد لحظات المكاشفة فيما بينها وإن كانت هذه اللحظات، هذه المكاشفات ستنزاح بحركات نحو مدائن الضوء واللون، فالعالم عنده غير منفصل عن مركباته الجمالية، وبتحليل ما لوجوده في الزمان وفي المكان، وبقدر واسع من الإمكان بجوانبه المختلفة، ونظراً لإستعابه لكل مظاهره على مستويات عدة، فهو في سعي دائم لفهم الأشياء من باب النزوع الدائم إلى تجاوز الخيبات لإكتشاف مفاتيح الدخول إلى أسرارها، دون وضع أي حد فاصل لدوافعه الجميلة، يترك العنان لها لتلتف بمقدرة وحب وحماس على فهمه العميق لواقعه القائم على معارفه ونغماتها المستحمة بأحلامه، فهو على باب مرحلة جديدة في تطور تجربته دون تزيينها، مرحلة كنتاج لتطوره الزمني، مرحلة ستكون مفعمة بالإحساس الشامل لكل خطواته وما يحيط بها من شروط السبر العميق لجوهرها، ولجوهر الفهم المهيمن على فكره الجمالي المضاء بشعاعات روحية لا تتواجد إلا في حالات فيها يكون الفن ضرورة حياة وضرورة وجود، لا نزق عابر، ولا نزيف عاشق، ومن أجل ذلك كانت القوى المحركة التي تقف خلف إنبثاقاته هي قوى مشبعة بتأملاته الشخصية حيناً، وقوى تفكير بها يلجأ إلى منابع ظروفه الإستثنائية التي فيها يخرج كل نتاجه إلى النور.
البار ينتقل كحصان أصيل في الحلبة، ينتقل بشموخ بين المجالات الثلاثة التي يشتغل عليها (مصور تشكيلي، خزاف، حفّار)، وإن كان في أكثر الأحيان يجر إلى مجال ما منه تحت تأثير بواعث معينة، تحت تأثير قوى كامنة في تطلعاته الذاتية وفي وقائع العمل الفني، فهو ينطلق بشعور عميق وأصيل في أكثر من دائرة جميعاً تتقاطع لترسم ملامح تجربته كنفحات معاصرة تتكىء على الماضي، وتفهم الحاضر، وترى الغد.