منذر حدادين يتناول 'دولة الغساسنة أصيلها ورحيلها'

الدكتور الأردني يبحث في كتابه تطور دولة الغساسنة خلال القرن السادس ثم ضمورها وغروبها لدى تقدم قوات الفتح العربي لبلاد الشام.

عمان - صدر عن دار ورد الأردنية كتاب "دولة الغساسنة أصيلها ورحيلها" للدكتور منذر حدادين.

الدكتور المهندس منذر جريس خليل الحدادين ينحدر من أسرة تنتمي لعشيرة الحدادين الأردنية التي ترجع في أصولها للغساسنة الذين أسسوا دولة تعاقدت مع الإمبراطورية البيزنطية لحماية تخومها ضد غزوات البدو من خارج حدودها وغزوات اللخميين حلفاء الإمبراطورية الساسانية إلى الشرق منهم.

وساعدت دولة الغساسنة جيوش الإمبراطورية البيزنطية في صداماتها المباشرة مع إمبراطورية الساسانيين الفرس.

تخرج المؤلف من جامعة الإسكندرية بعد تأهله لنيل درجة البكالوريوس في الهندسة المدنية عام 1963 وعمل بعد تخرجه في إعمار البنية التحتية في المملكة العربية السعودية لسنتين قبل أن يتوجه إلى الولايات المتحدة طالبا في الدراسات العليا بجامعة واشنطن في مدينة سياتل وفيها تخرج حاملاً شهادة الماجستير في الهندسة المدنية عام 1966 ثم درجة مرشح فلسفة عام 1967 فدرجة الدكتوراه (هندسة إنشائية) عام 1969.

وعمل سنتين في البحوث الهندسية في ولاية إلينوي قبل أن يستدعيه رئيس وزراء المملكة الأردنية الهاشمية الراحل وصفي التل عام 1970 ليخدم الوطن، وتشرف بتلك الخدمة في المساهمات البينة في تأسيس الجمعية العلمية الملكية وهيئة وادي الأردن وسلطة وادي الأردن وكلية الهندسة في الجامعة الأردنية وشركة البوتاس العربية.

وأمضى عقدا ونصف العقد من الزمان في التخطيط للتنمية المتكاملة لتطوير وادي الأردن وفي تنفيذ تلك الخطط. وعمل مستشارا غير متفرغ للعديد من مؤسسات التنمية الدولية قبل أن تستدعيه حكومة بلاده للاشتراك في عملية السلام في الشرق الأوسط ضمن الوفود الأردنية لتلك العملية.

الكتاب يتناول بطونا من الأزد نزحت إلى شمالي الحجاز حيث استقروا إلى جوار قبائل كنانة التي تواجدت شمالي نجد

وارتأى منذر حدادين، وهو الشغوف بدراسة تاريخ العرب، أن يتناول البحث في تاريخ دولة الغساسنة من شروقها في القرن السادس الميلادي إلى غروبها في أوائل القرن السابع الميلادي، وشجعه في تناول هذا الجهد أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية ـ رئيس جامعة بغداد قبل ذلك، الراحل الدكتور عبدالعزيز الدوري. وكان هذا الكتاب نتاج الجهد الذي بذله المؤلف بعد ذلك بعقد من السنين.

سيطرت في المشرق قبل الفتح العربي الإسلامي قوىً عظمى، فمن الشرق سيطرت إمبراطوريات فارس المتعاقبة تخللها سيطرة للقادة الإغريق ورثة الاسكندر المقدوني، ومن الغرب سيطرت الإمبراطورية الرومانية. وكان لكل من هذه القوى العظمى حلفاء تستعين بهم. وكان معظم الحلفاء من القبائل العربية التي هاجرت من جزيرة العرب إلى الشمال الشرقي والشمال الغربي منها ونركز في هذا الكتاب على دولة الغساسنة. 

تدل كتب الأنساب أن قبيلة الأزد اتخذت اسم جد نسلها الذي ينتهي نسبه إلى قحطان بالشكل التالي: الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهي بذلك من العرب العاربة، وتذكر المصادر والسير أن كهلان هذا "أبا زيد" كان المنافس القوي لأخيه حمير، الابن الآخر لسبأ، وعلى الرغم من غياب ذكر الأزد ضمن ملوك اليمن إلا أن ملوكا من كهلان وردت أسماؤهم ضمن الحميريين. وتواجدت بطون من قبيلة الأزد في نجران من أراضي الجزيرة العربية.

ويرد في القصص عن أقدم زعماء الأزديين اسم ثعلبة بن مازن بن الأزد الملقب بالعنقاء واسم ولده امرؤ القيس الملقب بالبطريق وحفيده حارثة بن امرئ القيس الملقب بالغطريف الذين توارثوا حكم الأزديين كابرا عن كابر. وفي أول الإشارات إلى مملكة الأزد على لسان شاعر أزدي بأن الأزديين في عهد حكم الملك عمرو بن عامر في بلاد مأرب كانوا يعيشون في الرفاهية والنعيم وانتهى ذلك العهد عندما علم الملك عمرو من العرافين بقرب دمار سد مأرب. فاصطحب الملك عمرو قبائله واتجه بهم إلى تهامة وآثر قلة منهم البقاء في نجران. ومن تهامة تفرقت القبائل فمنها من توجه للحيرة بالعراق، ومنها من توجه إلى عُمان وإلى اليمامة والبحرين، وأخرى توجهت شمالاً إلى بلاد الشام وهؤلاء كانوا بني الحارث: محرَّق وجفنة ابني عمرو بن عامر. ولما نظم الشاعر النابغة مدحا بالغساسنة قال في إحدى قصائده:

وللحارث الجفني سيّدِ قومه              ليلتمسن بالجيش دار المحارب

وثقتُ له بالنصر إذ قيل قد غَزتْ        كتائبُ من غسّان غيرُ أشائبِ

بنو عمّه دِنيا وعمرو بن عامرٍ          لأولئك قومٌ بأسهم غير كاذبِ

واستقر بطنا الأوس والخزرج من الأزد في يثرب، ورهط خزاعة في مكة ونواحيها، ومجموعة استقرت في الطائف. ومن هنا قالت العرب "تفرقوا أيدي سبأ" إشارة إلى الافتراق بعد الاجتماع.

ويتناول هذا الكتاب بطونا من الأزد نزحت إلى شمالي الحجاز حيث استقروا إلى جوار قبائل كنانة التي تواجدت شمالي نجد، وهذه البطون هم الغساسنة الذين اتخذوا الاسم من نبع ماء في زبيد بنواحي تهامة يقال له غسان. وبعد استقرارهم ذاك استأذنوا الإمبراطور البيزنطي أناستاسيوس بواسطة وكلاء الإمبراطورية في أطرافها الجنوبية وكان الوكلاء قبيلة سليح من قضاعة التي استأثرت بحكم جنوبي بلاد الشام طيلة القرن الخامس الميلادي ومنها من ملك في البلقاء (مملكة بيريا) وتزعمتهم الملكة ماوية التي ناطحت الإمبراطورية الرومانية حينا وناصرتها حينا آخر. وتنحدر سليح من قضاعة إحدى قبائل تحالف تنوخ الذي استندت إليه مملكة تدمر وملكتها زنوبيا. وكانت تدمر قد ورثت الحكم العربي في بلاد الشام عن الأنباط الذين أسقطت دولتهم الإمبراطورية الرومانية أيام الإمبراطور تراجان عام 106 للميلاد وضمتها إلى الولاية العربية وعاصمتها بصرى.

الكتاب يركز على الدور الرئيس الذي أدى إلى إضعاف إمكانات الإمبراطورية الرومانية

ويعرج الكتاب على الممالك العربية في المنطقة قبل الفتح العربي والقوى العظمى المجاورة لبلاد العرب والمسيطرة آنذاك. وتبرز دولة الغساسنة كقوة تحمي ثغور الإمبراطورية الرومانية ضد غزوات الأعراب وتساهم في صد الهجمات التي كانت تقوم بها إمبراطورية فارس من الشرق. ويبحث الكتاب في تطور دولة الغساسنة لقرن من الزمان هو القرن السادس الميلادي ثم ضمورها وغروبها لدى تقدم قوات الفتح العربي لبلاد الشام.

ويركز الكتاب على الدور الرئيس الذي أدى إلى إضعاف إمكانات الإمبراطورية الرومانية وهو الانقسام في صفوف الكنيسة المسيحية بعد المجمع المسكوني في خلقيدونية عام 451 للميلاد وما تمخض عنه من فريقين اعتنق كل منهما مبدأ يتعلق بطبيعة السيد المسيح. أحدهما "خلقيدوني" يؤمن بطبيعتين منفصلتين للمسيح إلهية وبشرية وثانيهما يؤمن باتحاد هاتين الطبيعتين في شخص المسيح وهو ما يشار إليه بـ"المونوفيزية" أو الطبيعة الواحدة. وتأثير اصطفاف الغساسنة إلى مذهب المونوفيزية وحمايته في علاقات دولة الغساسنة بالإمبراطورية الرومانية التي تبنت الخلقيدونية. ويضاف هذا الانقسام إلى ما سببه قبله الراهب الاسكندراني آريوس من انشقاق بسبب عدم إيمانه بالثالوث المقدس (الأب والابن والروح القدس) وعلاقتها ببعضها، وانتشرت عقيدته بين المسيحيين في شمالي أفريقيا وأقوام من القوط في الأندلس. ثم بعد "هرطقة" آريوس ما تسبب به بطريرك القسطنطينية نسطوريوس من إنكار وصف مريم العذراء بـ"والدة الإله" وهو ما نشأ عنه طائفة منفصلة انتشرت في أراضي الإمبراطورية الفارسية منسوبة لذلك البطريرك وهي طائفة النساطرة.

يلقي الكتاب الضوء على دور دولة الغساسنة العسكري والحضاري وعلاقة ملوكها بالجوار العربي وحمايتهم للمونوفيزية بل في تعيين مطارنة من أتباعها سرعان ما تطورت عقيدتهم إلى كنيسة منفصلة قاد تشكيل كهنوتها الراهب يعقوب البرادعي واتخذت الكنيسة المنشقة اسم مؤسسها وعرفت بكنيسة اليعاقبة وهي أصل كنيسة السريان في المشرق.

ويختم الكتاب محتواه بنظرة إلى ما آلت إليه قبائل غسان وعودتهم إلى قديم عادتهم وهي أن يتفرقوا أيدي سباً في أصقاع الدنيا، إلا أنه اتخذ أبعادا مختلفة عن تلك التي مارسها أجدادهم. ففي حين تفرق الأجداد في الأصقاع العربية والمشرقية اتخذ الغساسنة مسارات اغتراب أجنبية بهجرتهم إلى الأناضول والقفقاس والعودة إلى بلاد المشرق بخدمتهم الخليفة العباسي في بغداد ثم في انضمامهم إلى صفوف الدولة الأيوبية فهجرتهم إلى موطنهم الأصلي وتأسيس الدولة الرسولية في اليمن. وبعد اكتشاف العالم الجديد رأيتهم يهاجرون إلى الأميركتين وإلى أستراليا، وأصبح من نسلهم مشاهير في الأدب والأعمال والسياسة.

ولأحفادهم وجود ملحوظ في بلاد الشام سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، ومنهم من تحوّل إلى الإسلام ولهؤلاء الأحفاد أدوار حميدة في مجتمعاتهم ودولهم. ولعل هذا الكتاب على ما فيه من مختصر لدور أجدادهم يعطي الأحفاد ما يشجعهم على المساهمات الثقافية والتنموية في بلادهم ومد جسور التفاهم مع بلاد المهاجر حيث يتواجدون.

وقد استند المؤلف إلى مراجع تاريخية مشهود لها ويود أن يثني على الجهد الذي بذله الراحل الأستاذ الدكتور عرفان شهيد (قعوار) الأستاذ في جامعة جورجتاون بإنتاجه مجلدات في تاريخ بيزنطة والعرب Byzantium and the Arabs في القرون الرابع والخامس والسادس للميلاد، وبما أنتجه المؤرخ الفذ فيليب حتي الأستاذ في جامعة برنستون في كتابه "History of the Arabs"، وبكتاب "Ghassan Resurrected" للمؤلفة الكفؤه ياسمين زهران. كما يود المؤلف الإشارة إلى استناده إلى مرجع عتيد آخر للمؤلف Kevin Butcher هو "Roman Syria and the Near East" كما استند إلى بحوث أخرى أودعت في أطروحات أكاديمية.

ويود المؤلف أن يحيي روح الدكتور الراحل عبدالعزيز الدوري، الأستاذ في الجامعة الأردنية ورئيس جامعة بغداد قبل ذلك، الذي شجع المؤلف أن يطرق باب الكتابة عن الغساسنة، والمؤلف ليس مؤرخا ولا هو مختص في التاريخ لكنه من هواته، واستجاب المؤلف لذلك التشجيع لمّا توفر له الوقت بعد أكثر من عقد من وفاة الدكتور الدوري في العام 2010.