من القومية الى الاسلامية الى الاقليمية

اليوم، يدرك الجميع أن ترك الشعارات القومية التي قالوا عنها فارغة كان الخطأ الأكبر.

كانت البداية معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ومن ثم المعاهدات التي تبعتها، ومن ثم عولمة الاقتصاد والانفتاح، فكانت النتيجة فقرا يجر فقرا وتوالت الأحداث إلى احتلال العراق والربيع العربي والخراب الذي عم بلدان المنطقة. وها هي إسرائيل تحاول قتل القضية الفلسطينية وتضرب غزة كلما شعرت بالملل، والدول العربية تناصب بعضها العداء، وأهدرت مليارات الدولارات في التخريب وشراء الأسلحة، وفتحت الأبواب لإيران وتابعيها، حتى أصبح الجميع يعيش حالة خوف وترقب من هو الذي سينهار تاليا.

وبعد ذلك، نجد من يقول "القومجيون هم السبب". هل يا ترى لو ظلت القومية والشعارات التي يقولون عنها فارغة هي التي تحكم تصرفات العرب، هل كان يحدث ما حدث؟ كل زعيم عربي رفع شعار "دولتي أولا" فكانت النتيجة أن دولته وجيرانها ستنهار أولا وتاليا، ومن ثم قالوا ليس لنا علاقة بفلسطين، ثم شاهدوا كيف استغل الأعداء القضية الفلسطينية ليفرقوا العرب ويجعلوا منهم أعداء. وهم اليوم يرون نتيجة شعار "بلدي أولا" أمام أعينهم، ولا زال هناك من يتظاهر بأنه لا يرى وينكر أن هذا الشعار سيقضي على العرب جميعا.

وعندما طرح مقترح ضم اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي، رفض البعض لأنه بلد فقير. ألا يرون أن هذا البلد الفقير كان يمكن احتواءه وسد الطريق أمام ايران لكي لا تستفرد به، وتقوم بتجييش الشيعة لينتزعوا الحكم ويصبحوا في جيب ايران؟

على الأقل، كان أيام القومية العربية من له صوت وسطوة، ولم يكن هناك من يرتجف خوفا ويجلب العدو إلى قلب البلاد العربية ليدافع عنه، وكانت هناك محاولات لتطوير الصناعة والزراعة ثم توقفت جميعها أمام طوفان التجارة الحرة، وكان هناك خطط للتحرير تكللت بحرب رمضان 1973، وكان مستوى الحماس عاليا، ولو استمر ذلك التيار القومي لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. وكان هناك جمال عبدالناصر والملك فيصل وياسر عرفات والشيخ زايد وجميعهم يؤكدون على وحدة الصف العربي، وجميعهم يعرفون أنه طالما أن هناك إسرائيل، فلن تستقر أية دولة وتنهض، حتى تحول الخطاب إلى خطاب مهادنة وتراجع وفتح الأبواب للمبعوثين الأمميين الذين كانت مهمتهم الوحيدة إشعال الفتن والحروب.

اليوم، يدرك الجميع أن ترك الشعارات القومية التي قالوا عنها فارغة كان الخطأ الأكبر، فقد أتاحوا المجال للإسلاميين للظهور والانتشار وسمحوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات بيد الإمبريالية، وتقهقرت الدول على نفسها وصار همها حماية حدودها فقط. وهذا موقف يشجع تركيا على التوغل إلى الداخل العربي ويشجع ايران على التهام بعض الأراضي والجزر العربية ويشجع إسرائيل على التهام مزيد من الأرض الفلسطينية وعينها على ما بعد الأراضي الفلسطينية.

لم تنجز الشعارات القومية الكثير، ولكنها على الأقل كانت سدا منيعا ضد التخلف والرجعية واندلاع حروب طائفية ونشوء ميليشيات هنا وهناك بصبغة طائفية تنكل بالناس وترتكب مجازر لم يرد مثلها في التاريخ. والارتباط بين نشوء التيارات الدينية وأفول القومية واضح، فما أن أبرمت مصر معاهدة سلام حتى قويت شوكة الإسلاميين، وصار الناس يتداولون كلمات سني وشيعي، وظهرت أنواع جديدة من الوحوش تأكل الأطفال أمام أمهاتهم وتحرق وتذبح، وفي الجهة الأخرى، ظهرت ميليشيات مماثلة تقتل الناس حسب هويتهم، هل يا ترى لو ظل الناس يرددون شعارات القومية كان ممكنا إنشاء ميليشيات متوحشة كالتي نراها اليوم؟

اليوم، بشار الأسد متحالف مع ايران والشيعة السوريون يؤيدون الأسد من منطلق طائفي واللاجئون السوريون يخشون العودة خوفا من التنكيل، وداعش يفتك بالمدنيين في السويداء، وميليشيات العراق الشيعية تصول وتجول في العراق والحوثيون يستهدفون سفن النفط، هل لا يزال أحد ينكر أن القومية العربية وشعاراتها "الفارغة" كانت تحول دون وقوع الناس في هذا التخلف؟