من بغداد إلى أربيل البابا فرنسيس يجوب العراق برسائل المحبة والتسامح

البابا يدعو العراقيين إلى تضميد جراحهم الطائفية والصلاة من أجل من فقدوا من جميع الأديان، معبرا عن تأثره الشديد بالدمار الذي لحق بالمدن العراقية 'مهد الحضارات'.
البابا يختتم زيارته التاريخية بالقول: العراق سيبقى دائما في قلبي
واشنطن تعتبر زيارة البابا إلى العراق تعزيزا للتعايش السلمي بين الأديان

بغداد - انتقل البابا فرنسيس منذ قدومه الجمعة إلى العراق بين الأراضي العراقية المضطربة، ناشرا رسائل الحب والسلام وتعايش الأديان، بدءا ببغداد ومرورا بالموصل التي عانت تحت الحكم الوحشي لتنظيم داعش، مختتما رحلته في أربيل عاصمة إقليم كردستان شمال والتي تعيش مثل أغلب المدن على وقع هجمات عنيفة تنفذها بين الحين والآخر الميليشيات المنفلتة.

في باحة كاتدرائية مار يوسف للكلدان، انتظرت جموع من المصلين المسيحيين الذين تضاءلت أعدادهم على مرّ السنوات في بغداد، بصمت مهيب رجلاً لم يحلموا قطّ برؤيته.

هناك أقام البابا للمرّة الأولى قداساً بالطقس الكلداني، فاق عدد المشاركات به من النساء الرجال، ارتدت بعضهن غطاء أنيقاً أسود أو أبيض فوق رؤوسهن، احتراماً للزعيم الروحي لأكثر من 1.3 مليار مسيحي في العالم.

في الباحة وانتظاراً لأول قدّاس يحييه حبر أعظم في العراق، جلس الحضور على مقاعد خشبية مزينة بأزهار زاهية، حاملين بأيديهم مسابح أو كتب صلاة صغيرة، فيما فصلتهم دقائق قليلة عن لقاء البابا فرنسيس.

فجأة انكسر الهدوء الذي كان يخيم على الأجواء، وارتفعت مئات الأيادي بشكل عفوي إلى السماء. وصل البابا بملابسه البيضاء إلى الباحة الخارجية للكاتدرائية، وبدت على وجهه السعادة لكونه تمكّن أخيراً من أن يكون قريباً من مؤمنين انتظروه بفارغ الصبر.

بالزغاريد وتراتيل الطقس الشرقي التي تليت باللغة العربية، استقبل المصلون، بعد طول انتظار، البابا أخيراً.

وفيما عبر الحبر الأعظم الرواق المؤدي إلى الكنيسة، لم يتوانَ الحضور مراراً وتكراراً عن رفع هواتفهم لسرقة صورة ذاتية معه، بل نزعوا كماماتهم عدة مرات لتظهر ابتسامات فرحةً لم يتمكنوا من احتوائها في ظلّ هذه المناسبة التاريخية.

بدت الحماسة واضحةً أيضاً على وجوه الشباب من الحضور رغم أن عددهم كان قليلاً.

وجّه البابا إلى الحضور بكلمة عن التواضع والمحبّة أججت مشاعر الكثيرين من سكان الذين لزمن طويل من قتال الطائفية والاضطرابات الأمنية والحروب.

في القداس، بارك البابا فرنسيس القربان والنبيذ اللذين يرمزان بالنسبة للمسيحيين إلى دم وجسد المسيح، لكنّه لم يقم بطقس المناولة شخصياً.

العراقيات يستقبلن البابا ويودعنه بالزغاريد
العراقيات يستقبلن البابا ويودعنه بالزغاريد

ثم انتقل البابا إلى مدينة النجف المقدسة بالعراق حيث عقد اجتماعا تاريخيا مع المرجع الديني الأعلى للشيعة في العراق آية الله العظمى علي السيستاني وزار مسقط رأس النبي إبراهيم السبت لإدانة أعمال العنف باسم الدين والتي وصفها بأنها "الكفر الأعظم".

بعدها توجه البابا إلى الموصل، قائلا وسط أطلالها المدمرة بعد سنوات سيطرة تنظيم الدولة الإرهابي، "السلام أقوى من الحرب".

وهناك التقى سكان الموصل، أين روى  مسلمون ومسيحيون في المدينة الموصل الأحد معاناتهم من حكم داعش الإرهابي وبارك البابا عزمهم على النهوض من وسط الرماد وقال لهم إن "الأخوة أقوى من قتل الإخوة".

وزار البابا فرنسيس، في إطار زيارته التاريخية للعراق، الموصل بهدف الدعوة لتضميد الجراح الطائفية وللصلاة من أجل من فقدوا أرواحهم من جميع الأديان.

وسار البابا (84 عاما) مارا بأطلال بيوت مهدمة وكنائس إلى ساحة كانت يوما قلبا نابضا للمدينة القديمة هناك. وجلس محاطا بأنقاض المباني وبقايا الدرجات الخرسانية والكنائس العتيقة المهدمة، وهي مبان معظمها في حالة لا تسمح بالدخول إليها لخطورتها.

قال المطران نجيب ميخائيل رئيس أساقفة أبرشية الموصل وعقرة الكلدانية للبابا "معا نقول لا للتطرف. لا للطائفية.. ولا للفساد".

ودمرت معظم مدينة الموصل القديمة بسبب معارك شرسة شنتها القوات العراقية وقوات التحالف الدولي لطرد تنظيم الدولة الإسلامية.

وصلى البابا، الذي بدا عليه التأثر بحجم الدمار المحيط به، لكل من فقدوا أرواحهم في الموصل، ثم قال "إنها لقسوة شديدة أن تكون هذه البلاد، مهد الحضارات، قد تعرضت لمثل هذه العاصفة اللاإنسانية التي دمرت دور العبادة القديمة، وألوف الألوف من الناس، مسلمين ومسيحيين ويزيديين وغيرهم، هجروا بالقوة أو قتلوا".

وأضاف "اليوم وعلى الرغم من كل شيء، نحن نؤكد من جديد قناعتنا بأن الأخوة أقوى من قتل الإخوة، وأن الرجاء أقوى من الموت، وأن السلام أقوى من الحرب. تنطق هذه القناعة بصوت أكثر بلاغة من صوت الكراهية والعنف. ولا يمكن أن يُخنق وسط الدماء التي تسبب في إراقتها هؤلاء الذين يشوهون اسم الله ويسيرون في طرق الدمار" في إشارة مباشرة فيما يبدو لداعش.

وأحيطت زيارته بإجراءات أمنية مكثفة. ورافقت موكبه شاحنات عسكرية مزودة بمدافع آلية واختلط رجال أمن بملابس مدنية بالناس في الموصل بينما برزت مسدساتهم من حقائب على صدورهم.

عانت الطائفة المسيحية العراقية، وهي من بين الأقدم في العالم، بشكل خاص من سنوات الصراع وأصبح تعداد أفرادها نحو 300 ألف انخفاضا من حوالي 1.5 مليون قبل الغزو الأميركي للعراق في 2003 وما تلاه من عنف وحشي من المتطرفين الإسلاميين.

وروى الأب رائد عادل كلو مسؤول كنائس الموصل للسريان الكاثوليك وراعي كنيسة البشارة التي دمرت في الموصل كيف نزح في 2014 مع نحو 500 أسرة مسيحية بينما لم يبق الآن سوى أقل من 70 أسرة.

حشود غفيرة تستقبل البابا فرنسيس في كردستان العراق
حشود غفيرة تستقبل البابا فرنسيس في كردستان العراق

توجه البابا بعد ذلك بطائرة هليكوبتر إلى قرة قوش، وهي منطقة مسيحية اجتاحها مقاتلو تنظيم الدولة وعادت إليها الأسر تدريجيا وبدأت في إعادة بناء منازلها المدمرة. وزار البابا كنيسة استخدم المتشددون ساحتها للتدريب على إطلاق النار.

وبعد ذلك قاد قداسا في أربيل في اختتام جولته عاصمة إقليم كردستان العراق شبه المستقل، حيث احتشد الآلاف للحضور في ستاد مكتظ.

وفي كل من قرة قوش وأربيل، تلقى البابا أحر استقبال حتى الآن في زيارته، إذ تجمع الآلاف من الناس وقد عمت الفرحة بينهم على جوانب الطرق لإلقاء نظرة على الحبر الأعظم.

ولم يكن معظمهم يرتدي كمامات رغم ارتفاع حالات الإصابة بمرض كوفيد-19 في البلاد.

وأشادت الولايات المتحدة الأحد بزيارة بابا الفاتيكان إلى العراق في منشور للقنصلية العامة الأميركية في أربيل، قائلةً إنها "تمثل تعزيزا للتعايش بين الأديان".

وفي ملعب امتلأ بآلاف المصلين بدأ البابا إحياء قدّاسٍ احتفالي في أربيل، في اليوم الثالث والأخير من زيارته التاريخية إلى العراق.

وقالت فردوس زورا وهي راهبة من بين الحضور في قداس أربيل "هذه الزيارة تمنحنا الأمن والشجاعة.. وكأننا نحتفل بحياة جديدة".

وفي نهاية القداس، وهو آخر حدث رسمي للبابا قبل عودته إلى روما صباح غد الاثنين، قال البابا للحشد "العراق سيبقى دائما معي.. في قلبي". واختتم حديثه بالقول باللغة العربية "سلام..سلام..سلام".