مواقع التواصل تحرك الديمقراطية الجديدة

وسائل الإعلام الاجتماعية تشكل تهديدا وجوديا لفكرتنا عن الديمقراطية، لأننا نسلم بإرادتنا لوحة المفاتيح الغامضة لمن يتلاعب ببيئتنا، وهو الوضع الطبيعي الجديد للعصر الرقمي.
فيسبوك أكبر شركة غارقة في الظلام

يسهّل جون نوتون على البيئة الإعلامية فهم ما يحصل فيها، لأنه يعتقد أن العالم الرقمي وشركات التكنولوجيا غارقة في الظلام. نوتون باحث أيرلندي مرموق فهو أستاذ التكنولوجيا في الجامعة المفتوحة وكاتب دائم في صحيفة الغارديان البريطانية ومدير برنامج الزمالة الصحافية في كلية وولفسون وأحد أساتذة جامعة كمبريدج، والأهم من كل ذلك بالنسبة للمهتمين بالبحث في العصر الرقمي، أن جون نوتون مؤلف كتاب “من غوتنبرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج معرفته حقا عن الإنترنت” يجيب في متنه بوضوح قلّ نظيره عن أسئلة ملتبسة متعلقة بالإعلام الرقمي وما يمثله فيسبوك بالنسبة لنا اليوم من معضلة أخلاقية!

يملك نوتون الحق في أن يطلق لقب المرشد الأعلى لفيسبوك على مارك زوكربيرغ، بغير أن يتهكم عليه، لأنه يتكلم في رؤية طوباوية عن البشرية جمعاء، على اعتبار أنه رئيس جمهورية افتراضية مكونة من ثلاثة مليارات مستخدم.

ويتساءل عما إذا كان زوكربيرغ يدرك ما يعنيه كلامه حقا عن المجتمع المثالي، لأن كل الدلائل القريبة منه تشير إلى أنه يمتلك فكرة خافتة عن ماهية المجتمع الحقيقي، تتعدى بقليل الفهم الذي يشير إلى مجموعة أشخاص لا يتوافقون على كل شيء “في أي قرية من العالم”، ولكنهم ابتكروا طرقا للتقدم والقيام بما يحتاجون إليه بشكل جماعي.

نوتون يؤمن إلى حد ما بدراسة فكرة نظرية المؤامرة، لذلك يحذرنا من وقوع الديمقراطية ضحية اختراق متعمد من قبل الشركات التكنولوجية الكبرى.

فهو من بين الذين يحاولون النظر إلى “التاريخ الطبيعي” لنظرية المؤامرة. ويرى أن انتشار معتقدات نظريات المؤامرة هو “طريقة لمحاولة فهم عالم مُعقد ومُربك لمواطن عادي”. ويقول “أيا كان رأيك في دونالد ترامب، فهو مؤلف نظرية المؤامرة. كانت نوعا من الحافز بالنسبة إليه، حيث إن انتخابه كان له تأثير في دمج نظريات المؤامرة في نظرية واحدة”.

ويشرح ذلك بقوله “إن نظريات المؤامرة هي جزء مهم جدا من الحياة في العديد من المجتمعات، بقدر ما فكر الناس فيها، كنا نظن أنها أشياء مجنونة يعتقدها المجانين، وأن ليس لها تأثير كبير على الديمقراطية”.

لذلك توصل إلى أن وسائل الإعلام الاجتماعية تشكل تهديدا وجوديا لفكرتنا عن الديمقراطية، لأننا نسلم بإرادتنا لوحة المفاتيح الغامضة لمن يتلاعب ببيئتنا الإعلامية من الجهات الفاعلة الأجنبية والمحلية، وهو الوضع الطبيعي الجديد للعصر الرقمي الذي يربط علاقتنا مع بعضنا ومع العالم.

فالتدخل السياسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي بات يهدد الديمقراطية والحكومات بشكل فعال أكثر مما كان متوقعا، عندما قدّمت فرق التحقيق المكونة من شركات أمن سيبراني وباحثين من جامعة كولومبيا، ومجموعة غامضة تدعى “كانفيلد ريسيرش”، التي شكلها مجلس الشيوخ الأميركي بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، نتائج جعلت من القراءات واقعية بشأن الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تهديد الديمقراطية.

لقد درس فريق التحقيق 10.4 ملايين تغريدة و1100 مقطع فيديو على اليوتيوب و116000 مشاركة في إنستغرام و61.500 مشاركة شخصية على فيسبوك تم نشرها من 2015 حتى نهاية عام 2017. استهدفت الناخب الأميركي لزرع عدم الثقة والخلاف.

يصف جون نوتون مجموعة التعليقات والاستعارات وفلسفة الاستهداف التي نشرها “البروباغنديون” بأنها مثيرة للإعجاب. فالروس استهدفوا بلا هوادة الأميركيين من أصل أفريقي على فيسبوك، لتصل عملية الاستهداف إلى 1.2 مليون متابع.

  جون نوتون: استعارات “البروباغنديين” مثيرة للإعجاب
جون نوتون: استعارات “البروباغنديين” مثيرة للإعجاب

كما وجد تقرير لجامعة أكسفورد الشيء نفسه، فقد تم استقطاب الرأي العام الأميركي والتدخل في الانتخابات من خلال تشجيع الناخبين الأميركيين من أصل أفريقي على مقاطعة الانتخابات أو إتباع إجراءات التصويت الخاطئة، ودفع الناخبين من أصل مكسيكي وأميركي إلى عدم الثقة بمؤسسات الولايات المتحدة وتشجيع الناخبين اليمينيين المتطرفين على أن يكونوا أكثر صدامية، ونشر الإثارة والتآمر، وغيرها من أنواع الأخبار السياسية غير المرغوب فيها والمعلومات الخاطئة للناخبين عبر الطيف السياسي.

مع كل ذلك عبّر مديرو التكنولوجيا في الكونغرس الأميركي عن عجز قدراتهم لتقييم ما إذا كانت روسيا قد أنشأت محتوى يهدف إلى تثبيط أي شخص عن التصويت. وهذا ما يسميه نوتون  بـ”استراتيجيات الإنكار” ليطلق السؤال الأهم ماذا يعني كل هذا؟ ويجيب: ببساطة أن العالم قد تغير، وأن الديمقراطيات تدخل  لعبة جديدة. فالتلاعب ببيئتنا الإعلامية من قبل الجهات الفاعلة هو الآن الوضع الطبيعي الجديد.

وينقل نوتون في مقال له بصحيفة الغارديان البريطانية عن أحد المراسلين من ذوي الخبرة قوله “لم يعد ينظر إلى وسائل الإعلام الاجتماعية على أنها مجرد أداة مفيدة للتأثير على الانتخابات. إنها التضاريس التي ترتكز عليها ثقافتنا السياسية بأكملها، وتشكل قممها وودياننا من استغلال خطابنا اليومي بلا حدود. وإلى أن نستبدل هذه الوسيلة بالكامل، يجب أن نتوقع المزيد من الهجمات في أشكال مختلفة، تضيف المزيد من الشك عما إذا كان ما نتصفحه على الإنترنت يعكس الواقع، أو شيئا قريبا منه”.

ويصل في النهاية إلى أن وسائل الإعلام الاجتماعية تشكل الآن تهديدا وجوديا لنوع الديمقراطية الليبرالية التي نحب أن نفكر بها.

أنا أثق بطريقة تفكير جون نوتون منذ أن قرأت له للمرة الأولى كيف أن فيسبوك أصبح أكبر شركة في العالم تريد أن تغرقنا بالظلام، فلم أتراجع عن قراري بالإقلاع عن حسابي الشخصي على فيسبوك منذ سنوات!