"موسم الهجرة إلى الجنوب" رواية المستقبل المخيف

رواية التشيكي مارتن فوبينكا يمكن مقارنتها برواية جوروج أورويل الشهيرة "1984" من حيث رؤيتها المستقبلية للعالم. 
الرواية قريبة من روايات الخيال العلمي
الكتاب يشير إلى الطريق الصحيح ويفتحه على مصراعيه لكل من أراد أن يراه

يرى د. خالد البلتاجي في قراءته لرواية "موسم الهجرة إلى الجنوب" للأديب التشيكي مارتن فوبينكا (1963) والتي ترجمها أخيرا لتصدر عن دار صفصافة أنه يمكن مقارنتها برواية جوروج أورويل الشهيرة "1984" من حيث رؤيتها المستقبلية للعالم. 
ويقول "إنه عام 2105، حيث ولت كل مكتسبات كوكب الأرض وسكانه، وبلغت نهايتها، ها هي البشرية تتوجه نحو فنائها، ولا أمل في تغييرها حتى بقيادة الديكتاتور دوشيفوتني الذي لا يحمي سوى الأثرياء، ويتلاعب بالفقراء. لقد دمرت التقنية العالم، وأفسدت كوكب الأرض. توقفت الأمطار، وانقسم البشر إلى طبقة ثرية وأخرى تحتضر. ثم يولد الطفل إيلي، وبمولده تساقطت الأمطار".
 ويضيف المترجم والأكاديمي بقسم اللغات السلافية، شعبة اللغة التشيكية، كلية الألسن جامعة عين شمس "ما أن تفتح العمل حتى تجد نفسك في عالم ربما قضيت فيه بضعة أعوام، لكن لم ينتبه إلى أهميتها إلا أشدنا يقظة. رغم أن الرواية قريبة من روايات الخيال العلمي، إلا أنها تعد عملا واقعيا أكثر مما تبدو. يأخذنا الأديب إلى عام 2096 حيث بلغ التقدم التقني فوق الكوكب منتهاه، وحمّل كوكب الأرض ما لا يتحمله، فأفسده. حيث جف نهر فلتافا أطول أنهار التشيك. طرق مهدمة، وسيارات عطبة، وأنهار جافة، ونقص في الطعام. ثلاثة أعوام من الجفاف. نقص في عدد المواليد". 
من يرغب في عالم كهذا؟ هذا هو محور رواية مارتن فوبينكا "موسم الهجرة إلى الجنوب". 

السرد في الرواية يتناوب بين ذكرات الطفولة ووقائع الحاضر ليصنع "كولاجا" فنيا رائعا، يدفع الملل رغم حالة الثبات النسبي في حركة الأحداث في النصف الأول من الرواية

يلفت البلتاجي إلى أن "الكتاب يشير إلى الطريق الصحيح ويفتحه على مصراعيه لكل من أراد أن يراه. هذا الطريق الذي عُبّد بحب غير مشروط، وشجاعة وثقة وأمل، لكنه لا يخلو من حماقات بشرية، وحقد، وتكالب على السلطة، واغتصاب الحقيقة الوحيدة الممكنة. يستلهم هذا العمل أكثر حكايات الديانة المسيحية شهرة – منذ بُعث المسيح ووصولًا إلى مأساته الإنسانية. 
يفتح مارتن فوبينكا طاقة ننظر منها إلى روح إنسان شرير يحاول السيطرة على الطبيعة الأم، فيدمر العالم خطوة بعد أخرى. نصل بعدها إلى عصر رهيب، عصر يحدد معالمه ديكتاتور يتلاعب بالناس وكأنهم خراف يسوقهم من خلال وعود كاذبة، وبث الخوف في أنفسهم دون توقف. لكن الطبيعة تدافع عن نفسها، فلا تنصاع لنزوات البشر، فقضت مضاجع الجميع وعلى رأسهم العلماء. إلى أن تظهر مجموعة صغيرة وباسلة من البشر تنطلق في طريق يأخذهم إلى النهاية السعيدة. رغم هذا تظل فترة الجفاف الطويلة عالقة بمرارتها في الأذهان:
تذهب أم مارك لتأخذه من الحضانة بعد الظهيرة، يمشيان فوق حاجز ترابي، والماء الراكد من تحتهم صامت حزين، لا تصدر منه رائحة كريهة مع بداية الربيع، لكن لونه الأخضر الضارب إلى السمرة لا يشي بأي خير، جثث الطيور تطفو فوق سطحه، وفي الصيف تظهر بدلًا منها جثث الأسماك، لم ينزل المطر منذ ثلاثة أعوام، وصار كل شيء مصفرًّا محترقًا إلا شريط أخضر فوق حاجز ترابي. 
الدخول إلى البيت يتم من ناحية مرفأ السيارات، هناك تتحقق أمانيه، يريد أن يرى سيارتهم الرائعة التي تقف فيه كذكرى لأيام جميلة لم يعشها، وقت أن كان والداه في شبابهما، يسافران في تلك السيارة كل يوم تقريبًا، سافرا ذات يوم إلى البحر في هذه السيارة التي طارت فوق إسفلت مصنوع من مادة رائعة ما زال مارك لا يعرف ما هي".
 في أحد أحياء المدينة المغلقة يظهر الطفل مارك ابن السنوات الست، الذي ينتظر مع والديه مولد شقيقه إيلي، المسيح المنتظر. وهكذا ولد المسيح المنتظر، أو ربما غير المنتظر، ترافقه أولى زخات المطر بعد سنوات جفاف طويلة. 
مقاربة كبيرة بين عيسى المسيح والمسيح التشيكي "إيلي" الذي يشكك هو نفسه في الأمر. بعدها يعثر "مارك" على مبتغاه، أن يقوم طيلة حياته على حماية "إيلي" القادم من عالم غير العالم. تتفسخ أسرة المسيح الجديد، يرحل الأب عن الأسرة وتبقى الأم عابسة حزينة إلى أن ينقضي أجلها. تترك ولديها في وقت الحروب وهجرة شعوب الشمال إلى الجنوب الأوروبي. لكن "إيلي" يعرف الطريق الصحيح، فينطلق فيه مسلحًا بإيمانه وقدرته على إقناع الآخرين.

وعود كاذبة
الكاتب والمترجم

ويتساءل البلتاجي في قراءته: ماذا سيحدث لهذا الدين بعد رحيل المسيح؟ ويقول "على هذا السؤال وغيره من الأسئلة المطروحة يجيب الأديب بمقاطع سردية فكرية واضحة وصريحة. وهذه واحدة من إيجابيات الرواية. لا أحد يدعي الألوهية، ولا يزعم أنه وحده يعرف الطريق إليها. البداية الجديدة قائمة على أنه "لا يمكن السيطرة على العالم بوسائل من هذا العالم". فآمن الكثيرون بـ "إيلي"، شقيق مارك. 
ويستدرك: لكن الرواية ليست عن المسيح، بل عن شقيقه، أقرب الأقربين منه. من رآه وهو يأتي إلى العالم، من عاش مأساة موته، من وضعه في قبره، من حمل اسمه، وقدم عنه شهادته. رواية عن "مارك" البالغ من العمر 72 عامًا (لهذا كان العنوان الأصلي للرواية – المسيح أخي). يعيش في مدينة براج، في مجتمع أتباع "إيلي"، ولاحقًا في اليونان، في الجنوب الأوروبي، كراهب في مستعمرة لأتباع إيلي الفارين من الحروب والقتل، إلى الجنوب. هناك يتزعم مجتمعًا لا يتميز عن باقي المجتمعات إلا في إنجاب الأطفال بعد أن توقفت البشرية عن الإنجاب، وبدأت تندثر إلا من أتباع "إيلي".
ويؤكد البلتاجي في قراءته أن "موسم الهجرة إلى الجنوب" تجسيدًا لتضحية الشقيق من أجل شقيقه الذي يحمل رسالة سلام للبشرية، جرس إنذار من سقوط الحضارة الإنسانية. التأكيد على طريق السلام، ورفض سيطرة العلوم والتقنية، ورفض ألاعيب السياسة والسياسيين والعودة إلى الطبيعة رغم غياب اليقين عن بعض أبطال الرواية، فـ "إيلي" نفسه لا يعرف سببًا لما يفعله، ولا تفسيرًا له. فهو فقط يهز كتفيه عندما يسأله شقيقه، ويقول: 
"شيء ما يحدث في داخلي، يا مارك. أنا آسف، يا شقيقي، إن كنت أزعجك. لا بد أن تعرف أن الأمر هو كالتالي، لو قلت لي الآن، لكن عن حقّ، إننا لا يجب أن نذهب غدًا، فسأعرف إن كان ما تقوله صحيحًا أم خطأ. أحيانًا أشعر أني... لست حرًا. وعاجزًا عن التخلص من هذا الشعور. ولا يمكنني أن أفعل شيئًا آخر. هناك من يتحكم فيّ بصورة مطلقة، رغم أني وحدي". بينما "مارك" واثق من أخيه.
ويضيف البلتاجي "نتعرف في الفصول القصيرة الأولى على بطلي الرواية والأبطال الفرعية من حولهما. شخصيات الرواية مرسومة بأدق تفاصيلها، بصورة إنسانية خالصة. آلام "إيلي" لا حصر لها، يؤكد دومًا أن من لم يولد في هذا الزمان فهو سعيد الحظ: "لقد وصلنا في المعاناة إلى مستوى لم تصله باقي الكائنات الحية. والسعادة الوحيدة، يا مارك، هي أن للحياة نهاية. لذلك فالعذاب أيضًا له نهاية. وذات مرة ستنتهي معاناتي. وهذا هو ما يمنحني القوة لأواصل الحياة". 

تضحية الشقيق من أجل شقيقه
العنوان الأصلي للرواية: المسيح أخي

المسيح الصغير الذي تخيله "مارتن فوبينكا" يستيقظ أثناء الليل، في الليلة السابقة لموته، ويقول لشقيقه في تردد: ""أنا خائف، يا مارك. ماذا لو لم يكن هناك أي شيء؟ ولولا قدري لعشت أطول مما عشت".
ويشير البلتاجي في قراءته إلى أن أحداث الرواية يتضافر فيها الحب مع العقيدة والحكمة والنقاء. حيث يرسم الأديب أمامنا صورة للطبيعة، والمحراب المقدس، البيت المفعم بالحب والدفء. حب الشقيق وحب المرأة. خطان للحكاية يلتقيان في نهاية الرواية. الرواية تدفعنا إلى التفكير في حياة رسل الله الحقيقية، وفي حجم المسئولية الملقاة على عاتقهم تجاه من آمنوا بهم والتضحيات التي بذلوها من أجل نقاء الديانة. يلقي الأديب الضوء على التناقض بين الدين والعقيدة، بين الحقائق الخالصة والحقائق المنقولة عن وسيط، بين القلب والعقل. 
"لم يلحق إسماعيل بأسرته الكبيرة عندما عادت إلى الجنوب منذ أعوام، فقد رأى أنه ليس عدلًا أن يغادر وطنه الجديد الآن، وهو يمر بأزمة، دائمًا ما يتعبد إلى الله، ويجيب على أسئلة حول كيفية الجمع بين دينه والإيمان بـ إيلي بابتسامة قائلًا: "أنا لا أفكر كيف أجمع بينهما، فهذا طبيعي طالما كنت مؤمنًا". 
ويختم البلتاجي قراءته أن السرد في الرواية يتناوب بين ذكرات الطفولة ووقائع الحاضر ليصنع "كولاجا" فنيا رائعا، يدفع الملل رغم حالة الثبات النسبي في حركة الأحداث في النصف الأول من الرواية. القارئ يتطلع إلى المستقبل، يحدد ملامح مجتمع يحكمه ديكتاتور، ويسقط أفراده في أتون صراعات لاإنسانية. في الثلث الأخير من الرواية تتحرك الأحداث قدمًا، بعد أن يقرر "مارك" الرحيل ودفع الأحداث إلى نهاية مؤثرة للغاية. 
يذكر أن مارتن فوبينكا (1963) روائي، وناشر، وصحفي، ورحالة تشيكي. ولد في مدينة براج في أسرة تشيكية تشتغل بالثقافة حيث كان عمل أبوه وزيرًا للثقافة. درس في الجامعة في كلية الهندسة الفيزيائية والنووية وتخرج فيها عام 1987. لكنه لم يشتغل يومًا بهذا التخصص. يعمل ناشرًا منذ عام 1999، ويكتب المقالات المختلفة في الجرائد التشيكية. وهو أيضًا رئيس اتحاد الناشرين التشيك منذ عام 2013. كتب العديد من الروايات التي يغلب عليها طابع الخيال العلمي، ترجم بعضها إلى اللغات الأجنبية، منها ثلاثية الشبيبة "المدينة النائمة" التي ترجمت إلى العربية، و"العدالة النائمة"، و"السر النائم".