ميشال فوكو في طهران: حين يعانق الفكر جلاده
لم تكن زيارة ميشال فوكو إلى طهران إبان ثورة الخميني مجرّد تغطية صحفية، بل كانت انبهارًا فلسفيًا غريبًا بثورة ترتدي العمامة وتحلم بالحقيقة المطلقة. أن يحتفي أحد عمالقة الفكر الغربي بثورة دينية تهدد أبسط مبادئ الحداثة، فذلك ليس مجرد سوء تقدير، بل زلزال أخلاقي وفكري. فهل كان فوكو ضحية سحر شرقي قديم؟ أم أنّه اختار، عن وعي، أن يعانق جلاده باسم "الاختلاف" و"الروح الثورية"؟
في هذا المقال نعيد قراءة فوكو في طهران: لا بوصفه مراسلاً أو متفلسفًا، بل شاهدًا على لحظة انكسار الفكر أمام الإغواء الأيديولوجي.
يتساءل الكثير من العلمانيين في منطقتنا عن سبب "العماء" اليساري تجاه الأصولية الإسلامية في فرنسا وفي الغرب عموما. ويكاد بعضهم يستهجن مصطلح "الإسلاموية – اليسارية" ويستغرب المزج الغريب بين الأصولية واليسار! في فرنسا لم يعد اليسار المتطرف وفصيل واسع من اليسار الاشتراكي والإيكولوجي يخفي نفسه بل أصبح متحالفا ومدافعا عن الإسلاميين علانية.
في الحقيقة تقف عوائق نفسية ومعرفية ومنهجية كثيرة أمام فهم اليسار بصفة عامة للمسألة الأصولية وهي عوائق كثيرا ما أضلت أغلب الغربيين سواء السبيل وجعلتهم يعجزون عن إدراك ما يحدث فيتصرفون ضد مصالحهم وإن لم يشعروا: لقد تحوّل التنوع الذي كانوا ينشدون إلى كابوس أصولي يقضّ مضاجعهم.
وهذا الانبهار بالشمولية ليس وليد السنوات القليلة الماضية كما يظهر من خلال حزب "فرنسا الأبية" وتوابعها بزعامة جون لوك ميلنشون بل الداء أقدم وقد مسّ مثقفين من الطراز الأول.
يبدو أن المثقف الفرنسي سرعان ما ينبهر بالطغاة بداية من فلاديمير لينين والثورة البلشفية ومرورا بماو تسي تونغ وثورته الثقافية ووصولا إلى آية الله الخميني وثورته الإسلامية الأصولية. قبل 45 عاما ناصر الكثير من المثقفين الفرنسيين البارزين آنذاك ثورة آية الله الخميني الإسلامية بكل حماس ولم يروا فيها أدنى خطر. طلّقوا حسهم النقدي المعتاد الذي كان يشك في كل شيء وراحوا يبتهجون بثورة الملالي التي كان واضحا أنها ستؤول بسرعة إلى واحدة من أسوأ الدكتاتوريات على الإطلاق: ثيوقراطية شيعية، أساسها شريعة مفترضة تؤسس لولاية الفقيه، سلطة رجل الدين المطلقة. من بين المنبهرين أو "الحمقى المفيدين" المبكرين: بطل التحليل النفسي ميشال فوكو.
فما هي الأسباب التي جعلت عالم النفس المبجّل في فرنسا وخبير الجنون يرى في جنون الخميني ومناصريه "روحانية" تفتقدها السياسة في الغرب؟ ما أذهله في إيران، يكتب، هو عدم وجود نزاعات بين عناصر مختلفة، لقد رأى جبهة شعبية واحدة ضد الدولة المتسلطة.. هل يعقل أن يتم إنكار التمايز الاجتماعي والإثني والديني والسياسي بهذه السهولة من لدن عقل من أشهر العقول الغربية في القرن الماضي؟ ألا يمكن تصنيف موقفه ضمن نظرة بعض الغربيين الذين ينظرون إلى المسلمين والعرب -ببراءة أحيانا- نظرة تأحيدية: إله واحد، حزب واحد، شعب واحد، زعيم واحد وأربع زوجات!
كيف يمكن لرجل مثل ميشال فوكو أن يسقط في مناصرة حركة فاشيستية مثل الخمينية بمجرد أن ترفع لواء الدين وتعادي الأمر الواقع العالمي رغم معايشته المباشرة لأحداث طهران حيث كان مبعوثا صحافيا لجريدة "كوريير ديلا سيرا" الإيطالية والأسبوعية اليسارية الفرنسية "لو نوفال أوبسرفاتور" التي كانت ترى بدورها في أحداث إيران سنة 1979 فتحا ثوريا وسياسيا جديدا؟
لئن برّر وجوده كصحافي في إيران أيام التمرد رغم أنه لم يمارس الصحافة من قبل بقوله المشهور "لا بد من أن نوجد حينما تولد الأفكار،" فإنه لم ير الأفكار الفاشية الدينية وهي تولد، على الرغم من وجوده في عين المكان ومقابلته للخميني ذاته وللكثير من المتواطئين معه. لو ألقى نظرة ولو خاطفة على كتاب الخميني حول "الحكومة الإسلامية"-وهو ما يفعله أي صحافي جدي- لكان قد تنبّه إلى الأخطار التي كانت تولد. ولكان قد أدرك السطو الذي كان يمارسه الملالي على حركة شعبية متنوعة المشارب ومصادرتهم إياها بالقوة.
هل حقّق الملالي حينما نصبوا أنفسهم أوصياء على الشعب الإيرانيّ وعاثوا في حقوق الإنسان فسادا بتكميم أفواه المعارضة وتكفين النساء في تشادورات وفرض أخلاقوية قروسطية على المجتمع ما كان يراه ميشال فوكو شكلا من أشكال "الروحانية السياسية" المفتقدة حسبه في أوروبا المعاصرة؟ هل صحيح أنّ ما شاهده وكتب عنه بإعجاب كان تمردا فريدا على النظم العالمية، كما كان يقول؟ هل كانت "الثورة الإيرانية" انتفاضة شاملة فعلا على السلطة كما كان يدّعي؟
ماذا كان يمكن أن يقول لو كان حيا يرزق عن الوضع "الروحاني" الذي آلت إليه بلاد القوميات المقموعة تحت عباءة ولاية الفقيه؟ ما هي الوصفة التي كان يمكن أن يهديها للإيرانيات لتهدئة غضبهن وللتخفيف من أوجاعهن اليوم من جراء ما أصابهن من ويلات تحت نير "السياسة الروحانية" التي بشر بها وتحمس لها آنذاك؟
لم يعر صاحبنا أدنى اهتمام للتحفظات التي أبدتها الكثير من الجمعيات النسوية ومخاوفها المبكرة من المسار الخطير الذي كانت تنزلق نحوه تلك الحركة التي حولها الإسلاميون إلى حركة رجعية، والتي سميت زورا "ثورة".
هل كان ولع فوكو بالموت وراء إعجابه بالمتطرفين الإسلاميين العاشقين للشهادة؟ تحدث فوكو عن "فتح بُعد روحي للسياسة"، فهل هذا الفتح المبين هو تلك المحاكمات المخجلة والإعدامات العلنية لليساريين والديمقراطيين وكل المعارضين لجنون آيات الله؟ هل فات صاحب "المراقبة والعقاب" أنّ الحكم الدينيّ مولع دوما بقطع الرقاب؟ نقرأ في نهاية مقالته "بماذا يحلم الإيرانيون؟" ماذا يعني لسكان هذه الأرض البحث عن شيء قد يكلفهم حياتهم، البحث عن شيء نسينا إمكانية إيجاده منذ عصر النهضة وأزمة المسيحية الكبرى ألا وهو "الروحانية السياسية".
ويضيف "أكاد أسمع الفرنسيين يضحكون، لكنني أعرف أنهم على خطأ." لا أحد يضحك اليوم بل العبارة تثير شفقة من يعرف ما يعانيه الإنسان في إيران.
حينما يأتي يوم تعاد فيه كتابة "تاريخ الجنون" بموضوعية، سيكون فيه لفترة "الجمهورية الإسلامية" نصيب وافر من الصفحات وسنقف على تفاصيل سقوط ميشال فوكو في فخ "التقية" الشيعي. هل كان موقف فوكو من الخمينية مجرد هفوة، أساء فيها فهم الأحداث أم أن القضية تتعدى إلى وجود صلة ما بكل كتاباته النظرية ورؤيته الفلسفية؟
ربما لم يكن فوكو ساذجًا، بل كان مغويًا بفكرة الثورة بوصفها حدثًا يتجاوز التصنيفات الأخلاقية والسياسية، لكنه أخطأ التقدير حين رأى في الخمينية صرخة وجودية ضد الحداثة الغربية، وتغافل عن أنها كانت تأسيسًا لنظام يقدّس الطاعة ويسحق الفرد باسم الإيمان.
لقد عانق الفكر جلاده بالفعل، لا لأنّه لم يكن يعرف، بل لأنه أراد أن يصدّق ما يخالف الحدْس والتاريخ والمنطق. وهنا يكمن جرح فوكو الأخلاقي: ليس في انبهاره، بل في صمته بعد انطفاء وهج الثورة وبزوغ كابوسها.
يقول فوكو و"كل معرفة هي سلطة، وكل سلطة تنتج معرفة،" لكن ماذا تنتج المعرفة حين تُرسّخ السلطة باسم الدين؟ وهل تبقى الفلسفة حيّة حين يعانق مفكروها جلّاديها؟
في طهران، لم يسقط فوكو وحده؛ بل سقط معه وهم الحياد الفلسفي حين يواجه الطغيان المقدّس.