ميلان كونديرا والطلقة التشيخوفية

كونديرا يلمحُ إلى تفريغ الفن من بعده الجمالي حين يتم تطويعه لأغراض تعبوية في المجتمعات المحكومة بالمعجم الآيدولوجي.
الروائي الفرنسي من أصول تشيكية يقارن بين شوبان وتشيخوف 
الثيمات الأثيرة لدى كونديرا هي المنفى والحب والجسد والصدفة والحلم والغيرة

ينداحُ سحرُ التشويق على كل مفاصل العمل الروائي من خلال التكامل المنجز بين المحتوى والصياغات التعبيرية، إذ يشدُ المستوى البنائي والأفكار المُنسابة في سياقه المتلقي نحو إدراك متفاعل مع الأفق الجمالي للأثر الإبداعي، وهذا يثير أسئلة بشأن حيثيات شكل المادة الأدبية ورؤية المؤلف في تأثيث عالمه الإبداعي والمقومات التي ينهضُ عليها. ومن ثمَّ يتمُ التعرف على مكونات خطاب النص المسبوك في الإطار الفني. 
والسؤال الذي ما انفك يشغلُ ذهن المتابع لروايات ميلان كونديرا هو؛ هل تمثلت صورة العمل الأدبي في خيال المؤلف كما يراها بين دفتي الكتاب؟ من المرجح أن يكون التطابق قائما لدرجة كبيرة بين الوجود بالقوة، وما يسمى الوجود بالفعل، لجزئيات العمل الروائي. والدليل على ذلك هو التنظيم الذي يميزُ الرواية الكونديرية بقطع النظر عن حجم العمل أو المساحة التي يتحركُ فيها المؤلف.
طبعاً أنَّ الثيمات الأثيرة لدى صاحب "الحياة في مكان آخر" هي المنفى والحب والجسد والصدفة والحلم والغيرة. هذا ناهيك عن الجدل السياسي الذي لا يكون إلا مطعماً بالسخرية في سرده الروائي، فبرأي كونديرا أن العمل الفني الذي يختزلُ إلى أبعاد سياسية مجردة سيستبعدُ أوتوماتيكياً من سياق الفن المُعاصر.
موقف نقدي
 يُبدي ميلان كونديرا مقته للمحاولات الهادفة إلى البحث عن موقف ديني أو سياسي في المنجز الإبداعي، هذا لا يعني أن النبرة الإنتقادية تغيبُ في فضاء أعماله، لأنَّ الرواية بطبيعة الحال موقف نقدي تماماً مثل غيرها من الفنون، لذلك لا تنتهي الخصومة بين الرواية والعقليات الإلغائية. إذ القلق لدى شخصيات كونديرا إضافة إلى عامله المرتبط بالبعد الوجودي قد يكونُ مصدره السلطة الشمولية التي قد تنتحلُ صورة العاشق العابر كما تعبرُ عن ذلك علاقة تيريزا بالمهندس في رواية "الكائن الذي لا تحتمل خفته"، إذاً فإنَّ السياسية تتداخل مع الحميمية. ما يعنى تعري الإنسان من خصوصيته.

القرص يصبح بمثابة بندقية تشيخوف التي إذا ذكرت في بداية القصة لا بدَّ من استخدامها في النهاية لغرض ما، وبذلك يتفوق كونديرا في إدارة أجزاء عمله الروائي لدرجة ما أن تصل النهاية حتى تتذكر بداية الرواية

أكثرَ من ذلك يلمحُ كونديرا إلى تفريغ الفن من بعده الجمالي حين يتم تطويعه لأغراض تعبوية في المجتمعات المحكومة بالمعجم الآيدولوجي، فسابينا - وهي إحدى شخصيات "الكائن الذي لا تحتملُ خفته" - تهوى الفن التشيكلي لكن لا تتمكنُ من الإنصات إلى أفكارها الخاصة، وضاق بها الخناق في معهد الفنون الجميلة، لأنه لم يكن مسموحاً لها أن ترسمَ على منوال بيكاسو بل فُرض على الطلاب رسم صور لرؤساء الدول الشيوعية.
ربما الآلية الأمثل لفهم علاقة كونديرا بالموسيقى هي متابعة ما دونه في كتابه "الوصايا المغدورة" إذ يكون حديثهُ عن أشكال التعبير الروائي موازياً لرصد البنيات الموسيقية تراه مقارِناً بين شوبان وتشيخوف مثلما أنَّ الأخير لم يكتب الروايات الطويلة. كذلك الأمر بالنسبة لصاحب سمفونية الخريف وهو قد قاطع التأليف الموسيقي الكبير منكباً على تدوين مازوركات وبولنيزات وليليات، فالموسيقى تتغلغل إلى أعماق النفس مثيرةً لدى المرء الحركات ذاتها التي تعتريه عندما يقع نظره على الأشياء حسب تعبير جان جاك روسو. والحال هذه فإنَّ العلاقات الإنسانية لها نسق موسيقي لدى ميلان كونديرا، وهو يعتقدُ بأنَّ  العثور على اللوازم بين الناس أمرُ محتملُ عندما تكون حياتهم الموسيقية في أنغامها الأولى، إذاً زادَ كونديرا خلفية موسيقية لرواياته.
الحساسية الموسيقية
 يتفاعلُ نص كونديرا مع التشيكلات الموسيقية ففي "رقصة الوداع" لا ينحصر دور الموسيقى في وجود شخصية عازف البوق "كليما"، أو بما يوحي إليه العنوان من الحساسية الموسيقية بل يتولد إيقاع منتظم في توالي وحدات الرواية بحيثُ إنَّ كل مقطعٍ يكملُ ما يليه رغم الإختلاف في الموقف. 
تتاقطعُ "رقصة الوداع" في ثيماتها مع روايات أخرى لكونديرا ويشتغلُ المؤلف على الحب والمنفي والرغبة، لكن كل ذلك يصحبه القلق والتأرجح بين احتمالات وفرضيات عديدة، كما أنَّ الشخصيات المتحركة في أثير "رقصة الوداع" تحققُ ما يصطلحُ عليه بالنغم الروائي، وبذلك يتمُ إلغاء ثنائية الشخصة الرئيسة والثانوية في النص الكونديري.
تتنوعُ الإفتتاحيات في روايات كونديرا بين جملة سردية أو الإشارة إلى مفهوم فكري أو بوصف شخصية كما تجد ذلك في "الخلود" أو يصفُ مشهداً طبيعياً وهذا ما تراهُ في بداية "رقصة الوداع" إذ قبل الإبانة عن البنية المكانية وهوية الشخصيات، يضعك الراوي أمام عناصر مشهد طبيعي، وينتقلُ تالياً إلى الحركة التي يشهدها المكانُ إذ تتوافدُ النساء نحو مدينة المياه الساخنة طلباً للإستشفاء وإستعادة الخصوبة بفضل المياه المعدنية.
وما يلبث أنْ تتضح علاقة الشخصية بالمكان حيثُ ولدت روزينا ويعيشُ والداها هناك ومن ثُمَّ يتمُ تمرير جملة بصيغة الإستفهام. "هل تتصلين به؟" ويفهمُ من سياق الكلام أنَّ المعني بالسؤال ليس إلا روزينا دون معرفة الطرف الآخر الذي من المفترض أن تتصل به، وعندما تدور المحادثة الهاتفية بين الاثنين يظلُ الشخص مجهول الإسم إلى أن ينتهي الحوار ويعقبهُ السرد المستبطن لسريرة روزينا المستاءة من ردود "كليما"، ويقابلُ ذلك عرض ما يعيشهُ عازق البوق من القلق والإنشطار .

الورطة
مع تسلسل السرد يكتشفُ المتلقي الأصرة بين عازف البوق المقيم في براغ وروزينا التي تمضي سحابة نهارها في مسقط رأسها الذي ملت من رتابة أجوائه. إذ يقعُ إختيار كليما على روزينا من بين كل النساء ليمضي معها ليلةً بعدما انتهي الحفل الموسيقي الذي أقامه في المدينة وما يعيشهُ في هذه الليلة يلقي بالثقل على أيامه القادمة إذ لا ينفعه تجاهل الرد على بطاقتي روزينا التي حملتهما الشوق والتحيات.
والغريبُ هو تفكير عازف البوق من الورطة بالصوت المرتفع مع أفراد فرقته،  فهم يبادرون بإسداء نصائحهم إلى كليما. وما يعمقُ أزمة عازف البوق هو هيامه بزوجته "كاميلا" إذ تذكره بوتر آلة موسيقية ويرى في إيماءتها كل تاريخ جسدها وروحها واصفاً هذه اللحظات بتبصر مُطلق.
هكذا تتشكلُ قصة الإطار التي تتوالدُ ضمنها حلقات قصصية أخرى منها قصة جاكوب وأولغا وروزينا وفرانتيشك، غير أنَّ قصة عازف البوق وروزينا تتغلغلُ في مفاصل الرواية حيثُ يتمُ تناول موقف كليما من منظور الرجل الأميركي برتليف الذي يمثلُ صوته وعياً ذرائعياً، فبرأيه أنَّ الحب المفرط حبُ آثم ومايؤكد ذلك هو حالة عازف البوق.
يحضرُ سكريتا، وهو طبيب نجحَ في تحقيق أحلام كثير من النساء اللائي حرمنَ من التمتع بغريزة الأمومة. كما لا يخذلُ كليما عندما يقنعُ روزينا بإجهاض الجنين الذي نسبت أبوته إلى عازف البوق.
الإدراك الجمالي
 يأخذُ النقاشُ عن جمال الجسد الأنثوي قسطاً لافتاً في فضاء الرواية، يتأملُ جاكوبُ ملامح روزينا مستعيداً رأي هيغل عن (البروفيل اليوناني) حيثُ يتجلى الجمالُ في التناسق القائم بين الجبهة والأنف بالمقابل يرفضُ برتليف الحكم على المرأة بناء على المظهر الخارجي، لأنَّ العين لا تدركُ إلا قدراً بسيطاً مما يمكن أن تمنحه إياه المرأة، فيما يوازى جمال المرأة الإشراقة الصوفية لدى جاكوب، لذا ما أن يبصر كاميلا حتى تختلط في ذهنه متعة التذوق الموسيقي والتشكيل ويدور حوار بين الاثنين دون سابق المعرفة بينهما ما يقولهُ جاكوب يوحي بأنَّ لقاءه بتلك المرأة يفوق تأثيره على كل ما عاشهُ سابقاً، ولا يمنعهُ شيء من الإرتباط بها عدا قرار مغادرته للبلد.
وهذا الموقف يذكرُ المتلقي بالكلام المتبادل بين جاكوب وأولغا بشأن الهوية والمكان. زدْ على ما مرَّ فإنَّ الرغبة تسدُ لدى كونديرا الفجوات الموجودة في الكلام بحيثُ توفر لغة مشتركة تجعلُ التواصل ممكناً بين عازف البوق وروزينا. 
يشار إلى أنَّ ميلان كونديرا يصفُ الرغبة في "البطء" بفتنة العقل أو اليقين الذي يتمثل في الإفتتان بالآخر. ومن الواضح أنَّ أعمال مؤلف "الجهل" تفتحُ ثغرات في الأسيجة المحاطة بمداركنا نتيجة تنميط الحياة. وتضيء دور الصدفة في صناعة المصير، ومن المفارقات الغريبة في رواية "رقصة الوداع" أنَّ القرص الذي كان يحملهُ جاكوب لمدة خمسة عشر عاماً وبفضله تأكد من التحكم بموته وتفادي مهانات الإعتقال يقع في علبة الأقراص التي تتعاطاها روزينا. وهذا ما يشغلُ ذهن جاكوب إلى أن يحسب المرات التي تتناول فيها المرأة القرص إلى أن يتوصل إلى نتيجة مفادها أنَّ ما بنى عليه مشروع إنتحاره لم يكن إلا وهما، لأنَّ ريتا تناولت القرص وفق حساباته ولم يودِ بحياتها. لكن هذا الإفتراض الذي ينساق وراءه المتلقي يظهر نقيضه عندما تنهار روزينا بعد تناولها قرصاً آخر عقب تصاعد توترها بفعل مشاجرتها مع فرانتشيك الذي تعنت في تكرار أبوته للطفل المستكين في أحشاء روزينا. 
هكذا يصبح القرص بمثابة بندقية تشيخوف التي إذا ذكرت في بداية القصة لا بدَّ من استخدامها في النهاية لغرض ما، وبذلك يتفوق كونديرا في إدارة أجزاء عمله الروائي لدرجة ما أن تصل النهاية حتى تتذكر بداية الرواية.