نابليون كنز يتجدد كل عام

أنيس منصور: الفرنسيون لا يزهقون من الكتابة عن مصر الفرعونية، ولا عن نابليون. 
سوليه: بونابرت كان يحلم من ناحيته بالمشرق منذ طفولته الغضة وكان يفكر ملياً بأن المرء يستطيع في مصر أن ينجز أعمالاً كبرى
لا بد أن أي مثقف مصري قد قرأ كتاباً أو اثنين عن الحملة الفرنسية على مصر

هذا الكتاب الذي بين أيدينا ترجمته الآن هو من الكتب الموضوعية وقد قام بتأليفه كاتب مشهور في كل من فرنسا ومصر وهو روبير سوليه الذي تولى مناصب صحفية مرموقة وله كتب عديدة عن مصر، ومن المعروف أنه ولد وتربّى في مصر حتى سن الشباب. وقد كتب سوليه روايات كثيرة تتحدث عن مصر أو تَحْدث وقائعها على أرضها.. ومن أشهر كتبه: مصر ولع فرنسي.. وحجر رشيد وغيرهما.
أما كتابه الذي بين أيدينا الآن فهو كتاب "علماء بونابرت في مصر" وقد ترجمته إلى العربية فاطمة عبدالله محمود وراجعه وقدم له د. محمود ماهر طه وصدر منذ سنوات ضمن إصدارات سلسلة "مصريات" التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
حضارة عريقة
في تصديره لهذا الكتاب يقول الكاتب أنيس منصور: الفرنسيون لا يزهقون من الكتابة عن مصر الفرعونية، ولا عن نابليون. ففي كل عام كتب جديدة. ولا بد أن أي مثقف مصري قد قرأ كتاباً أو اثنين عن الحملة الفرنسية على مصر. أنا قرأت خمسة كتب وقلَّبْتُ في عشرين. ثم يضيف منصور قائلاً: كان نابليون عمره 28 عاماً عندما غزا مصر سنة 1798 ووراءه أكبر قوة محمولة بحراً في التاريخ: 335 سفينة وعليها 133 من كبار العلماء في كل العلوم والفنون. وهي أول مرة تغزو دولة أوروبية الشرق الأوسط. وقد جاء علماء بونابرت ومن آمالهم تعليم المصريين ونقلهم إلى العصر الحديث. فكانت المفاجأة أنهم اكتشفوا حضارة عريقة لا يعرفونها ثم إنهم اكتشفوا حجر رشيد الذي فك طلاسم اللغة الهيروغليفية بفضل العالِم الشاب العبقري شامبليون. ثم يختتم أنيس منصور تصديره قائلاً: الغريب أن نابليون كنز يتجدد كل عام.. عجبي!

هذا الغزو السلمي لم ينبع أبداً من القهر والإرغام، بل من الإبهار والافتتان، إنه بلا شك الغزو الذي كان يحلم به، في أيامهم الجميلة، أفضل علماء بونابرت

فاتحة خير
أما د.محمود ماهر فيبدأ مقدمته قائلاً: تحتلف آراء العلماء المؤرخين والباحثين في نظرتهم وحكمهم على الحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر من حيث أهدافها وأغراضها ونتائجها. فهناك فريق منهم يرى أنها كانت فاتحة خير وبداية نهضة علمية وحضارية وما قامت به من أعمال إدارية وإنشائية وثقافية كانت لصالح مصر والمصريين. وأنها كانت من العوامل التي أدّت إلى نهضة مصر الحديثة على يد محمد علي باشا في أوائل القرن التاسع عشر. أما الفريق الآخر فيؤكد أنها كانت مجرد حملة عسكرية بحتة تهدف إلى احتلال مصر لتقطع الطريق على إنجلترا خاصة طريقها إلى الهند. ثم إن الاهتمام المبكر بالآثار المصرية أدّى إلى هجمة شرسة منذ بداية القرن التاسع عشر من بعثات أوروبية مختلفة قامت بنهب آثار وادي النيل.       
ويرى د. ماهر أنه يحسب للحملة الفرنسية قدوم مجموعة من العلماء المرموقين في صحبة الفرق العسكرية المقاتلة للقيام بالبحث والدراسة والتسجيل بحيث أصبحت الحياة المصرية كتاباً مفتوحاً أمام العالم في ذلك الوقت.
أعمال كبرى
يبدأ سوليه كتابه قائلاً: كان بونابرت يحلم من ناحيته بالمشرق منذ طفولته الغضة وكان يفكر ملياً بأن المرء يستطيع في مصر أن ينجز أعمالاً كبرى. وقبل هذا يقول: قطعاً إن مصر منذ أمدٍ بعيد كانت تسحر ألباب الفرنسيين، فبالإضافة إلى الآثار والغموض والإبهام المتعلق بحضارتها القديمة، هناك أيضاً الأعراف والتقاليد المُبهرة الخاصة بـ "المشرق الإسلامي" وهناك المومياء والحريم. إن مصر تعد فريسة مغرية للغاية!
منذ أن وطئت قدم بونابرت أرض مصر وهو يُظهر إعجابه وولعه بالدين الإسلامي وها هو يقول في أول بيان له باللغة العربية ساعده في كتابته المستشرق فانتور دي بارادي: بسم الله الرحمن الرحيم..لا إله إلا الله.. ليس له ولد ولا شريك له في ملكه. ثم يضيف: أيا أيها المصريون قد يقال لكم إني حضرت لكي أدمر عقيدتكم. فها هي كذبة ولا تصدقوها أبداً! بل أجيبوا بأنني قد جئت لأعيد إليكم حقوقكم ولمعاقبة المغتصبين وإنني أفوق المماليك في تبجيلي لله ونبيه محمد والقرآن الكريم.
وعن العلاقة بين أهل مصر والفرنسيين يقول سوليه: لقد كان الوجود الفرنسي يلقى استحساناً من جانب الأهالي. ففي إطار المناطق التي يهيمن عليها الجيش كان الفلاحون يحظون بالحماية ضد غزوات البدو وهجماتهم. وفي القاهرة كان التجار ينعمون ويسعدون بهذا النمط من الزبائن ذوي المقدرة الشرائية الجديدة. أما الفرنسيون فكانوا يستعينون بمجموعات خدم وعاملين ويعطونهم أجوراً مناسبة. غير أن الوضع لم يكن ليدوم على هذه الحالة فقد ثار الأهالي بسبب سلسلة من الإجراءات التي لا يستوعبونها ويجدونها تنمُّ عن التمييز العنصري وفضائح شائنة.
وبعد أن راح علماء الحملة الفرنسية يكتشفون آثار مصر في شمالها وجنوبها يقول فورييه للقائد كليبر: عند جمع إنجازات جميع هؤلاء العلماء والفنانين سوف تتوافر المادة اللازمة لتقديم مؤلَّف كامل عن مصر. فها هي إذاً فكرة لإنجاز جماعي، تبدأ تلمّس طريقها. ولقد توقع البعض أن هذا العمل سوف يكون متميزاً واستثنائياً. بل إنه سيرقى فوق كل ما أمكن إنجازه حتى الآن عن العصور القديمة اليونانية أو الرومانية!

رحلة في مصر
أما العالِم الفلكي نويه فقد اكتشف أن الهرم الأكبر يبلغ طول كل جانب من جوانبه 230 متراً وحجمه يصل إلى 3.2 مليون متر مكعب، ومن خلال عملية حسابية تبين أن الأحجار التي يتكون منها تسمح بإحاطة فرنسا بجدار يبلغ ارتفاعه مترين وسُمْكه ثلاثون سنتيمتر. هذا وقد فاق العالِم دومينيك فيفان دينون الجميع في تصرفه سريعاً.. فحالما رجع من مصر مع بونابرت سارع إلى جمع ملحوظاته ورسومه ثم كتب نصاً وعمل على نقش عدة لوحات، وقد لاقى كتابه المعنون بـ "رحلة في مصر السفلى ومصر العليا" والذي نشر في العام 1802 قد لاقى نجاحاً كبيراً ثم تُرجم إلى عدة لغات، وعلى مدى ذاك القرن طبع منه ما لا يقل عن أربعين طبعة، وقد أهداه المؤلف إلى بونابرت قائلاً: إن اقتران توهج وتألق اسمك بروعة وسحر نُصُب ومنشآت مصر هو بمثابة جمع ما بين انتصارات عهدنا والعصور الأسطورية في إطار التاريخ. أما فورييه فقد احتلت مقدمته كتاباً بمفرده صوَّر مصر من خلاله باعتبارها أكثر متاحف الدنيا ثراءً في العالم كله.
وصف مصر
وعن كتاب وصف مصر يقول سوليه: لا يمكن أن يُعتبر "وصف مصر" عملاً مكتملاً.      فبدايةً قد شابه عدم التناسق وربما يرجع ذلك إلى ظروف الإعداد. كما يفتقر إلى أي فهرس بل ولا حتى قائمة بالمواضيع. وعلى ما يبدو أن ما تضمنه من مواضيع قد نشرت به دون مراعاة أي نظام. كما أن هنا كنقيصة أخرى: هذه الدراسة الموسوعية تبدو ناقصة لأن العلماء والفنانين لم يكن لديهم الوقت الكافي لاستكشاف البلد بأسره وأن يدرسوا الواحات النائية وكافة الحيوانات والنباتات. ولقد ارتكبوا خطئاً كبيراً في تقديرهم لتعداد الأهالي المصريين بمليوني فرد ونصف في حين أن بعض الدراسات القريبة قدرته بحوالي أربعة ملايين!
زعيم دولة
ثم يعود سوليه إلى الحديث عن نابليون فيقول: إن نابليون قد تدرب على ضفاف النيل على مهنته كزعيم دولة حيث مارس وفقاً لسانت بوف تجربة السيادة والإمبراطورية.
وفي خاتمته لكتابه "علماء بونابرت في مصر" يقول روبير سوليه: لا ريب أن حملة بونابرت تتراءى اليوم أمام معظم المصريين كبداية لتسلسل طويل المدى من الاعتداءات الغربية ضد العالم العربي. ثم يُنهي قائلاً: ها هنا إذاً عمل باهر! تبقت منه الكثير من العلامات والأدلة.    وذلك بالرغم من تعريب البلد، وأمركة العقول!
إن هذا الغزو السلمي لم ينبع أبداً من القهر والإرغام، بل من الإبهار والافتتان، إنه بلا شك الغزو الذي كان يحلم به، في أيامهم الجميلة، أفضل علماء بونابرت.