نادين غورديمر تعري عنصرية 'العالم البرجوازي الزائل' في جنوب افريقيا

رواية أديبة نوبل تحكي عن امرأة من أصولٍ أوروبية تزوجت رجلا من بني جنسها في خمسينيات القرن العشرين وعاشا معًا إلى جانب عائلتَيهما لكن أفكار الزوجَين كانت مغايِرة لسياسة عائلتَيهما البرجوازيتَين العنصريتَين، فهما لم يدَّخرا جهدًا في المطالَبة بأن يحصل جيرانهما الأفارِقة على حريتهم المسلوبة، إلى أن اتخذت الأحداث مسارا غير متوقع.
الرواية الأفريقية تتسم بالاحتجاج والرفض الكامل لسياسة 'الأبارتايد'

متى ستظل سياسة الفصل العنصري باقية؟ وإلى متى سيظل العالَم الأوروبي البرجوازي سيدا في جنوب أفريقيا؟ تساؤلات كثيرة تُطرَح في ثنايا هذه الرواية البديعة ذات الطابع السياسي العميق لأديبة نوبل نادين غورديمر، وقد صِيغت بأسلوب جذاب ومشوِّق يحمل الكثير من الأفكار والمعاني، ويمتزج بالكثير من مشاعر الحب والظلم والقهر.

تحكي رواية "العالم البرجوازي الزائل" عن امرأة من أصولٍ أوروبية تزوجت رجلا من بني جنسها في خمسينيات القرن العشرين، وعاشا معًا إلى جانب عائلتَيهما في جنوب أفريقيا، لكن أفكار الزوجَين كانت مغايِرة لسياسة عائلتَيهما البرجوازيتَين العنصريتَين؛ فهما لم يدَّخرا جهدًا في المطالَبة بأن يحصل جيرانهما الأفارِقة على حريتهم المسلوبة، وأن يتمتَّعوا بالمساواة، وألَا يُنظَر إليهم نظرة دونية، وظل الزوجان متمسِّكَين بأفكارهما إلى أن اتخذت الأحداث مسارا غير متوقع.

في مقدمته للترجمة الصادرة عن مؤسسة هنداوي يقدم المترجم سمير عبد ربه إطلالة تاريخية موجزة لما ارتكبه الغزاة البيض البريطانيون والهولنديون من جرائم عنصرية في جنوب أفريقيا بشكل عام، ليؤكد أن الروائيين في تلك الفترة كانوا يكتبون عن النباتات والحيوانات الموجودة في المنطقة بطريقة شبه علمية، وفي أحسن الأحوال لم تكن أعمالهم تتجاوز تلك الحكايات الرومانسية التقليدية الخالية من المضمون والمعنى، لكننا حين ننتقل إلى البدايات الأولى من القرن العشرين، وبالتحديد عام 1900 نجد أن حرب الأنجلوـبوير أو حرب الأفريكان قد أثرت قليلًا في تطور الرواية بجنوب أفريقيا، فنرى الكاتب هارولد بلور في روايته "الفارس الماهر"يصف الهجرة الجماعية من جوهانسبرج إلى ناتال وذلك الحصار الناتج عن الحرب، ولكن بطريقة سردية وواقعية.

 ويأتي بعد ذلك أوليف شرينر 1855 ـ 1920، وبولاين سميث 1883 ـ 1959م، فتتسم الرواية على أيديهما بروح الخلق والإبداع حتى نصل إلى مرحلة النضوج الروائي في الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية ونهاية الستينيات، والتي ما تزال تواصل نضجها حتى الآن وبشكل أكثر تفرُّدًا خاصة بعد أن ترسخت أقدام حكومة الأقلية البيضاء التي كان من نتائجها ظهور الحركات النضالية من أجل المساواة والتحرر فاتجه الكتاب في أعمالهم إلى مناهضة سياسة التمييز العنصري (الأبارتايد) والتنديد بالأفريكان والمطالبة بحق السود في حياة كريمة، كما في رواية آلان باتون "بكاء الوطن المحبوب" 1948، ورواية "الفالاروب المتأخر"1953، ثم أعمال الروائي جاك كوب؛ وأهمها:الطائر الذهبي 1908، الطريق إلى يستربرج1959، صانع المطر1971، و"طالب زند1972.

توقف عبدربه في مقدمته محللا لكثير من الروايات السابقة واللاحقة على هذه الأعمال حيث تعرض لأهمها وأكثرها تعبيرًا عن ذلك المناخ المتفرد والصاخب الذي تموج به جنوب أفريقيا، والذي لم يجد فيه المبدعون سوى الرواية وسيلة للتعبير عن قضاياهم؛ إذ إن الأشكال الأدبية الأخرى قد لا تسعفهم في التعبير عنها بطريقة مشبعة، والجدير بالذكر أن تلك الروايات في معظمها وإن لم تكن جميعها تتسم بالاحتجاج والرفض الكامل لمختلف أشكال القهر والعنصرية مع الحلم الكبير بوطن حر مستقل.

بدأ عبد ربه بالكاتبة الروائية بيسي هيدالتي قالت قبل نشر أي رواية لها: إذا كان لا بد أن أكتب في يوم ما، فإنني سأقول دائمًا إن البشر هم البشر دون اعتبار للون بشرتهم. وكتبت أول رواية لها تحت عنوان "عندما تتجمع السحابات الممطرة" ومثل كل أعمالها اللاحقة، فإن تجربتها الشخصية تسيطر على مسار الرواية، فنرى "ماكايا سيكو" الذي يغادر جنوب أفريقيا إلى بتسوانا بعد تورطه في نشاط سياسي مناهض للحكومة، وتلك المعاناة التي يلقاها السود وردود أفعالها عليهم كما في حديث ماكايا إلى صديقته القديمة: "هل تفهمين من أكون؟.. إنني ماكايا الكلب الأسود الذي تقذف به الحياة.. إن الحياة مزيج من العذاب والألم، وقد لا تكون شيئًا على الإطلاق، حتى إنني لا أرغب في محاولة فهمها".ثم يحاول تفسير معنى الكلب الأسود فيقول "إنه مجرد إحساس.. إن أولئك البيض معتادون على سلوكنا الغريب وحين نرتجف من سياطهم ويصيبنا الفزع تنتابهم سعادة بالغة لأننا بالنسبة لهم لسنا سوى كلاب سوداء على هيئة بشر.. إنهم يضحكون علينا وعندما نتحول إلى كلاب مجنونة يضحكون بصوت أعلى".

وفي الروايتين التاليتين "مارو"و"مسألة قوة" تأخذ السيرة الذاتية شكلًا أعمق، فنرى "مارغريت" في رواية "مارو" تنتمي مثل "بيسي هيد" إلى مجموعة الأقلية المضطهدة، وحين تعرض على صديقها "ديكيليدي" بعض رسوماتها فإنه يسألها: كيف رسمت كل هذا؟.. فتقول المؤلفة"استدارت مارجريت وابتسمت؛ إذ لم يكن بمقدورها أن تشرح له عذاب تلك الأيام".ثم تستطرد "لقد تعلمت مارجريت الرسم لأن شيئًا ما بداخلها كان أكثر قوة من قدرة جسدها على الاحتمال.. لقد تعلمت الرسم من أجل أن تحتمل ومن أجل أن تكبح عواطفها طمعًا في حياة يمكن احتمالها".

ويضيف عبد به إن "بيسي هيد" التي ترفض كل ما يحدث في جنوب أفريقيا وتحلم بالتغيير عن طريق تبادل الحب بين الأجناس البشرية ترى في ذلك الزواج طريقة للعيش بين الناس في سلام بعيدًا عن لون بشرتهم. أما في رواية "سبيل القوة" تعد من أنضج أعمالها، ففيها تتحرر من عبء السيرة الذاتية والسرد الوقائعي لحياتها وتستخدم الرمز وتنتقل إلى شخصيات أخرى تمثل مختلف القضايا الأخرى.

ويرى عبدربه أن غورديمر صاحبة هذه الرواية التي بين أيدينا ليست الكاتبة الأفريكانية الوحيدة التي تناولت في أعمالها مختلف أشكال القهر والعنصرية، وإنما هناك أعمال قصصية وروائية وشعرية ومسرحية مختلفة لمبدعين آخرين من البيض تناولت نفس الأفكار والوقوف إلى جانب السود والتعاطف مع قضيتهم ورفض سياسة التفرقة العنصرية، ورغم أن نادين غورديمر ـ بعد حصولها على جائزة نوبل عام 1991ـ قد أصبحت أبرز أولئك الكتَّاب في الساحة الأدبية، إلا أن القارئ المحايد يجد صعوبة في إدراك ما ترمي إليه، كما أنه لا يشعر بعد قراءتها بالتعاطف والمتعة الكافيين كما يحدث له بعد الانتهاء من قراءة أحد المبدعين السود، ويرجع ذلك لسببين؛ أولهما: أن المبدع الأسود لا يستطيع أبدًا أن يتجاهل الحقيقة المتمثلة في كونه أحد أصحاب البلاد الأصليين، بالإضافة إلى ما يلقاه دائمًا من اضطهاد وعبودية ونفي واعتقال ومصادرة، فنراه يعبر عن واقع ملموس بأسلوب بسيط يتناسب مع أشكال الكتابة الأدبية التي تحمل قضايا وهمومًا وطنية.أما السبب الثاني فهو أسلوب نادين غورديمر في الكتابة.. ذلك الأسلوب البالغ التعقيد والذي يفوت على القارئ قدرته على المتابعة، وبالتالي يفقده التعاطف المطلوب، وهذا الأسلوب وتلك التركيبات اللغوية بالغة الصعوبة هما السبب ـ على ما أعتقد ـ في إحجام المترجمين عن التصدي لترجمة أعمالها الكثيرة على العكس مما حدث مع أعمال كل الحاصلين على نفس الجائزة من قبلها.

ويلفت إلى أن السبب الأول بضرورة الإشارة إلى اثنين من أهم المبدعين السود في جنوب أفريقيا وأكثرهم تميُّزًا، ألا وهما أليكس لاجوما وحزقيال مغاليلي. وتتميز أعمال لاجوما القصصية والروائية بالغوص في أعماق الناس وإظهار معاناتهم، وتسيطر عليه فكرة الأرض واللون والحركات النضالية والرفض الكامل لسياسة التمييز العنصري، وتكمن قوة كتاباته في البناء المحكم البسيط والواقعية المتمثلة في الفعل والشخصيات.وأهم ما يلفت الانتباه إلى رواياته هو ميلودراما الجريمة والعنف والاختطاف، وموت الأطفال في الحرائق، والاعتقالات والمنشورات السياسية. وتبدو كل شخوص لاجوما ضد النظام وتحتل التفرقة بين الأبيض والأسود مكانًا بارزًا في إبداعاته كما في رواية "الوطن الحجري"مثلا، حيث تصل التفرقة إلى داخل السجن أيضًا فلا المعاملة هي نفس المعاملة ولا الطعام هو نفس الطعام. ولا يفوت لاجوما تفسير السبب وراء القبض على السود والزج بهم داخل السجون إذا لم يكونوا من السياسيين فيقول "إنهم يدخلون السجن نتيجة ليأس شديد من لونهم الأسود مما يجعلهم يرتكبون الجرائم".

كما يتحتم علينا عند ذكر الإبداع والرواية في جنوب أفريقيا أن نشير إلى عميد الأدب الأفريقي كما يلقبونه هناك، والذي عانى مثل "أليكس لاجوما" من قسوة المنفى، ولقد عبر عن ذلك بقوله: "أريد أن أبقى على اتصال ببيئتي، فالكتابة خارج البلاد بلا معنًى، خاصة وأن القدرة على استرجاع الأحداث تصبح متعذرة بعض الشيء". إنه حزقيال مغاليلي الذي يتميز أسلوبه بالبساطة الشديدة في تناول نفس القضايا الساخنة المشتعلة فوق أرض الواقع ولقد كتب كثيرًا من الأعمال القصصية والروائية، إلا أن معظمها تمت مصادرته، ولعل رواية "نزولًا إلى الشارع الثاني"التي بدأ بها الكتابة 1959هي أحد أهم أعماله رغم أنها سيرة ذاتية عن حياته في جنوب أفريقيا. لقد كتب مغاليلي رواية "المشردون" عام1971، وبعد ثلاث سنوات تلاها برواية "شيروندو" إلا أنها لم تنشر إلا بعد خمس سنوات من كتابتها، وكانت هي وروايته المبكرة "يجب أن يحيا الإنسان" هما الروايتان الوحيدتان اللتان تم نشرهما في جنوب أفريقيا على العكس من بقية أعماله التي نُشرت جميعها خارج البلاد. وقد حدث ذلك بعد تراجع الحكومة البيضاء عن قرار منع أعماله، فسارعت دور النشر بإضافة إبداعات عميد الأدب إلى قائمة الكتَّاب.

ويقول إن غورديمر كاتبة غزيرة الإنتاج يستولي على إنتاجها موضوع أثير لديها، وهو الوقوف بشدة ضد سياسة الأبارتايد والاشتغال بالسياسة والمطالبة بالمساواة والحرية وإدانة المجتمع الأبيض، كما في هذه الرواية التي تعرِّي فيها ذلك المجتمع، فتقول على لسان جراهام "إنهم يدعوننا بالعالم البرجوازي الزائل". والجدير بالذكر أن الحكومة البيضاء قد صادرت هذه الرواية بحجة أن الشخصيات الرئيسية من البيض والسود غارقون في علاقات جنسية، غير أن السبب الحقيقي هو إدانة المجتمع الأبيض.. ذلك المجتمع القاسي الذي ينقصه الشعور والقدرة على التواصل، ليس فقط بين الأبيض والأسود وإنما أيضًا بين الأبيض والأبيض.

ويشير إلى إن غورديمر تريد أن تقول ببساطة في هذه الرواية إن البيض في جنوب أفريقيا قوم مجردون من الصفات الإنسانية، حتى إنهم يخافون من العيش كسائر البشر ويخشون التعامل بصدق مع أحاسيسهم لأنهم موافقون ضمنًا على العيش في ظل قوانين غير إنسانية.إن المصادرة والنفي والاعتقال والتفرقة العنصرية هي الملامح الرئيسية في أدب جنوب أفريقيا، حتى إن الكتابة لدى مبدعيها تشكل ضرورة ملحة في مواجهة ذلك المناخ السياسي المعادي للإبداع، ولا شك أن نادين غورديمر واحدة من أولئك الكتَّاب الذين رأوا في الكتابة تلك الضرورة.

قال وول سوينكا: "لو أنه لا يوجد سوى شكل أدبي واحد وطريقة تواصل لغوية واحدة لأصابنا الفناء بفعل الضجر والملل.، ولعل هذه المقولة تفسر تلك الضرورة وذلك التفرد الإبداعي الذي تتميز به القارة الأفريقية السوداء عمومًا، وجنوب أفريقيا على وجه التحديد.

مقتطف من الرواية

يمكن للإنسان النزول بعد الحب أو الصعود بعد القمر وإذا ما حقق شيئًا خارج نطاق بيئتنا الطبيعية أفلا يصبح معقولًا أنه وصل إلى ما وراء حقيقة الموت؟ وألا يبدو وصول أولئك الرجال للقمر تصورًا مسبقًا للسيادة؟ … إنهم هناك على قيد الحياة.. مشهد للعمليات هام ودال على معنى ونحن ندعو ذلك اللاشيء فوقنا بالسماء التي هي سقف بيئتنا، وجزء من ترابنا وكينونتنا وشاهد على لحظاتنا التي تبلغ سبعة وثمانين عامًا مثل لحظات جدتي، أو واحدًا وثلاثين عامًا مثل لحظات ماكس الذي كان سيبلغ الثانية والثلاثين في الشهر القادم.. ذلك اللاشيء الذي رأيته بنفسي من الطائرة فيما وراء طبقة السحاب التي تغلف الجو هو ما ندعوه بالفضاء.. إن رائد الفضاء الآن قادر على اجتياز السماء والدخول في عالم الفضاء وإذا كان الله هو أساس الأبدية، أفلا يكون هذا الرجل قريبًا من الله هذه الليلة؟ أفلا يكون أكثر قربًا من ماكس الذي يحاول الحب في قاع البحر؟.. إن الديانات رغم كل شيء تعلمنا أن مملكة الله ومملكة الروح ليست من هذا العالم، أما الطبيعة البشرية فهي من هذا العالم، والموت من هذا العالم أيضًا، غير أن الموت يقودنا إلى الحياة الأبدية.

إن الفضاء أيضًا ليس من هذا العالم وليس المرء في حاجة لأن يموت كي يدخل الحياة الأبدية، وإلا فليس مدهشًا وجود ذلك الاتصال العميق بين خلود الله ولا محدودية الفضاء؟.. إن بعض العلماء يحاولون في الحقيقة إثبات أنهما نفس الشيء، لكن كل الناس تقريبًا تعتقد في وجود شيء ما كما تعلموا من الأساطير الدينية ومن خلال اندفاعهم الثوري بحثًا عن أشكال تفوق طبيعة الحياة.

إن ما يحدث هناك في الأعالي قد يكون تعبيرًا روحيًّا لأعمارنا لا ندري عنه شيئًا واكتشاف الفضاء ليس منهجًا وإنما هو دين جديد.. بعيدًا عن غشاء الكرة الأرضية.. هناك بعيدًا عن هذا العالم.. النزول إلى قاع البحر … اللانهائية.. الأبدية.

هل استطاع أي شكل من أشكال العبادة التي نمارسها منذ زمن طويل أن يعبر بشكل أكثر إلحاحًا عن الحنين إلى الحياة بعد الموت أو الحنين إلى الله؟