نبوءة شكسبير عن العراق

المسرح العراقي اليوم شكسبيري في تراجيديا راديكالية تكشف مقدمتها عن العمائم السوداء والبيضاء، وتجسد المثال الأكثر خطورة في المأساة العراقية المتواصلة بإدارة أبنائه الذين فتحوا الباب لغيرهم وقبلوا السير في الطريق الأعمى.
ذاكرة المسرح العراقي

عندما علت صيحة شكسبير أيها الخجل أين حمرتك، كان قد تنبأ قبل مئات السنين بابتذال السياسيين ورجال الدين العراقيين، فشكسبير نبوئي كبير عندما يتعلق الأمر بالأخبار السيئة فالبشر ضعفاء، غير أخلاقيين، شهوانيون، مخادعون، قتلة، غيورون، متهورون، مجانين، وفي سعي الناس للحصول على الحب والسلطة، بات شيوع الموت والكوارث من متلازمات الحياة، حسبما يرى.

لعل ذلك ليس الأمر الوحيد عندما يتم ربط كاتب المسرحيات في العصر الإليزابيثي، بالعراق، بوصفه مثالا تاريخيا للتنبؤ بالأخبار السيئة. فعندما أراد “أحدهم” أن يرفض الوضع الشاذ في العراق وفقا للتقسيم الطائفي الذي ساد بعد الاحتلال عام 2003، أعاد قراءة شكسبير من قدميه وليس مما أنتجه خياله الفذ، فقدم روميو وجوليت بطريقة هي سنية وهو شيعي! مع أن أفضل من ترجم شكسبير وقدمه للقارئ العربي كان قد عمل ذلك في العراق، فلم تستطع أي ترجمة لاحقة أن تتفوق على ترجمة الكاتب الراحل جبرا إبراهيم جبرا.

لقد ترك شكسبير نبوءته الحافلة بالحكمة والشرور والكرامة والعزيمة والنذالة، لكنه لن يكون أكثر هدوءا لو تسنت له كتابة التاريخ المعاصر للقيم، سيجد بلاد النهرين الشاحبين مثالا لما أصاب الإنسان من تصحر قيمي، وبدت الكرامة في أوطأ درجاتها تاركة سلّم القيم إلى الغرائز والهويات الضيقة الطاردة للوطنية.

ستكون هناك أكثر من عاصفة على المسرح الشكسبيري العراقي، لكن أيا من تلك العواصف لن تستطيع مغادرة سوق الغبار السياسي والطائفي والاجتماعي الضحل، سيكون للضحالة موقعها عندما يرتقي ذوو الأصول الوضيعة المراكز العليا بوصفهم سادة القوم، سيفقد الكلام العراقي حكمته إن لم يضف إليه رجال الدين شرعية الخرافة، وهكذا يصبح الوقار والحكمة والكرامة والوطنية كلمات عتيقة مرتبطة بالماضي ويجب اجتثاثها ومنعها عن جيل الألفية، كي لا تصبح الوطنية مثاله، فثمة أمثلة أكثر أهمية اليوم تبدأ بالطائفية ولا تنتهي بالعشائرية.

حتى الماضي عندما يراد استحضاره فسيتم وفق مشيئة الخرافة التي تقبلتها العقول الضحلة كمنقذ لها من البؤس والانهيار والتداعي.

المسرح العراقي اليوم شكسبيري في تراجيديا راديكالية تكشف مقدمتها عن العمائم السوداء والبيضاء، وتجسد المثال الأكثر خطورة في المأساة العراقية المتواصلة بإدارة أبنائه الذين فتحوا الباب لغيرهم وقبلوا السير في الطريق الأعمى.

يرفع اليوم في بغداد بمهرجان مسرحي للتعزية شعار ينم عن السقوط المريع الذي تنبأ به شكسبير، عندما اختار مسرحيو الأحزاب الدينية الحاكمة جملة مستوحاة من ضحالة الفكرة الطائفية شعارا للمهرجان “إذا كانت بغداد عاصمة الدنيا، فكربلاء عاصمة الدنيا والآخرة”! هكذا تتلاشى حمرة الخجل، فلم يعد التاريخ وحده مصدر الخرافة، الحاضر العراقي غراب يعيش أحكام الماضي الملتبس، يرتدي ربطة العنق ويجلس على مسرح الصلف والوضاعة.

الزمن الشاذ الذي يعيشه العراقيون اليوم، لن يكتفي بكونه قدرا قائما، إلا بتجسيده على مسرح العبث الذي يجعل التنافس بين المركز والأطراف قائما بفكرته الطائفية مضافة إليها هذه المرة الفكرة الغيبية، عندما جعلوا من كربلاء عاصمة الآخرة! وكأنهم حقا يعيشون دنيا حقيقية في العراق وليست مزيفة في بلد مخطوف.