نجيب محفوظ وعصر من الأدب

حب الكتابة أخذ الكاتب المصري الشهير عن حب الكرة، حيث كان صاحبنا يجيد لعبة كرة القدم، وكان يخطط لأن يصبح لاعبًا كبيرًا مشهورًا في نادي المختلط ولكن شغفه بالأدب كان هو الغالب.

لأن الأدب لا يؤكل عيشا كما يقولون، وأنه فقير أمام الغلاء، فقد اختار نجيب محفوظ أن يعمل في وظيفة كتابية في الجامعة – بعد تخرجه - بما يمنحه فرصة ممارسة هوايته الأساسية وهي الأدب وكتابة القصة والرواية، مع علمه التام بأن الرواية مثيرة للريبة أكثر من أي جنس أدبي آخر. وقد ظل كاتبنا في هذه الوظيفة الأولى في حياته، حتى سنة 1938 وكانت تلك الفترة أخصب فترات حياته. وخلاله حياته لم يفكر في أن يكون الأدب أبدًا مصدرًا دائمًا للزرق.

وعندما أحيل للتقاعد (عام 1971) اعتذر للدكتور محمد عبدالقادر حاتم عندما اقترح عليه أن يجدِّد أو يمدِّد خدمته، وقال له: أريد أن أتفرغ للأدب. لقد كان يشعر بالحرية والتوحد مع الأدب والفن.

ويعتقد صاحب "الثلاثية" أن الأدب وسيلة التحرير الكبرى، ولكنه قد يكون وسيلة للرجعية، حيث خرجت آداب مرضية عملت أجيالا على تجميد العقل وقتل الروح.

لذا عندما كان يتوقف عن ممارسة الأدب لأسباب خارجة عن إرادته، كان يسمي فترة التوقف هذه، باليأس الأدبي، مثلما حدث خلال التوقف الأول (1952 – 1957) بعد قيام الثورة، فقد كان يؤمن وقتها بأن الثورة سوف تحقق بما كان ينادي به قبل قيامها، فكتب القاهرة الجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق والثلاثية وغيرها، وعندما قامت الثورة لم يجد ما يكتبه، فلجأ لكتابة سيناريوهات للسينما، ولكن عندما تحرك الأدب، رمى "السينما" وعاد إليه وهو في شوق شديد.

وقد أخذه حب الأدب عن حب الكرة، حيث كان كاتبنا يجيد لعبة كرة القدم، وكان يخطط لأن يصبح لاعبًا كبيرًا مشهورًا في نادي المختلط (الزمالك). ولكن حب الأدب كان هو الغالب.

وهو يعتقد أن تصنيف الأدباء وتسكينهم في خانات معينة، مثل هذا روائي جيد وقاص ضعيف، أو العكس، فإنه ظلم لا يقع على الأديب بقدر ما يقع على الأدب ذاته.

لقد كان نجيب محفوظ في بداية حياته الأدبية يضيق بكثرة الموضوعات، لدرجة أنه أعد نحو 40 موضوعًا تصلح لروايات عن تاريخ مصر القديمة، ولكنه في نهاية حياته كان يشكو قلة الموضوعات الأدبية.

وهو دائمًا يشكر قراءه على أنهم منحوه شهادة وجوده في الأدب وفي الحياة، "هم الأساس وليس النقاد، وأشكرهم".

وهو دائما ما يذكر رأي محمد عبدالقادر المازني بعد أن قرأ "زقاق المدق" حيث قال له: "الأدب الذي تكتبه اسمه الواقعية، وهذا له خطورته". وأوضح له أن الأدب الواقعي غير الذاتي. "ونحن لم نتعود في مصر إلا على أن الرواية هي سيرة كاتبها فاعمل حسابك، إما أن تغير الطريقة، أو أن تأخذ بالك من المحاذير التي يمكن أن تقابلك".

وعلى الرغم من ذلك فإن محفوظ من الذين يؤمنون أنه لا يوجد أدب غير واقعي، وأن جميع الأشكال تؤدي إليه، كما أن جميع الطرق تؤدي إلى روما.

وهو يعتز دائما بما قاله الدكتور علي الراعي عن "الثلاثية"، فهو أول من قال إن ثلاثية نجيب محفوظ تفتح باب العالمية أمام الأدب العربي، وكان ذلك قبل نوبل بعشرات السنين.

ويؤكد نجيب محفوظ أنه في فترة تكميم الأفواه وقف الأدب يتلمّس طريقه المحفوف بالمخاطر بحذر شديد، ومضى الأدب الحر يتحايل على التعبير من وراء أقنعة ورموز مؤثرا ذلك على الصمت أو النفاق. وعليه تمتع الأدب بحرية نسبية في ذلك الوقت، لم يتمتع بها صوت آخر. فكان أدب هذه المرحلة تغلب عليه المراوغة، فيجيء معادلا للواقع، لأن عملية مس الواقع كانت خطيرة.

بعد ذلك ظهر إلى الوجود مصطلح "الأدب الإسلامي"، وأوضح محفوظ أنه ليس ضد الأدب الإسلامي، فمن الخير أن يوجد الأدب الإسلامي، وأي أدب أهلا به وسهلا. وليس معنى أن أكتب أدبًا إسلاميًّا أن يكون هذا الأدب عن خالد بن الوليد مثلا. يكفي أن تكون فيه بعض القيم الإسلامية وثقافة إسلامية عامة. إن أصحابه يحصرون الأمر في أضيق الحدود. فليكن وينشأ أدب ويوجد أدباء، وتكون له جائزته، فهذا خير في حد ذاته وأنا أرحب به. وهناك من الأدباء الذين ينتمون إلى التيارات الإسلامية كتبوا عني من أحسن ما يمكن ولم أكن أتوقع منهم ذلك مثل الدكتور نجيب الكيلاني، قرأت مقالة له من أبدع ما يكون. وهو منظّر الأدب الإسلامي. في لحظة اعترف اعترافًا جميلا بكل المجهود الذي بذلتُه.

فهل سيتحقق لي الخلود الأدبي بعد الموت؟

أحيانا يطلقون على نجيب محفوظ أنه مؤرخ الحارة المصرية، وهو يرى أن المؤرخ هو - شاء أم أبى - مرآة عصره وابن زمانه، وتقتصر مهمته على تسجيل الأحداث التي جدَّت في عصره بطريقة منهجية منظمة. في حين أن تسجيل أحداث التاريخ، جزء من عمل الكاتب الروائي. ليس بمراقبة هذه الأحداث و"الفرجة" عليها، وإنما بمعايشتها باستمرار. يقول لحسن عبدالرسول (جريدة الأخبار 15 يناير 1976) إن الأدب الروائي لا يعتمد على المراجع أو الإحصاء، ولكنه يعتمد أولا وأخيرًا على القلب والعاطفة والوجدان. فالأدب وثيقة لا تتعرض لما يتعرض له المؤرخون (بالتفاصيل والوثائق) وإنما هو يعرض لأهم الأحداث في علاقاتها المؤثرة بحياة الأفراد العاديين. إن الأدب الروائي يصنع من الحياة السياسية العامة، والحياة اليومية الخاصة، نسيجًا يظهر به ومن خلاله معنى أساسيًّا، هو ارتباط حياة الأفراد بحياة الوطن.

وعن علاقة الأدب بالثورة سألت مجلة "فن" (عدد 18 يوليو 1955) نجيب محفوظ الذي قال: في رأيي أن علاقة الأدب بالثورة، علاقة قبلية وبعدية، فهو يعبر عادة قبل الثورة عن آلامها وآمالها، مثل ذلك في الثورة الفرنسية "روسو" و"فولتير"، وفي الثورة الروسية "ديستويفسكي" و"تولستوي"، وفي الثورة المصرية الحديثة "طه حسين" و"توفيق الحكيم" و"يوسف السباعي". وهذا بالطبع على سبيل المثال لا الحصر. وأما بعد الثورة فإن الأدب يتطور تطورًا مستمدًّا من روحها، ولكن ذلك لا يأتي بتصوير حوادثها الغريبة، ولكن بالتعبير عن صميم روحها، وذلك لا يتأتى إلا بعد مدة من الزمن، تكون الثورة خلالها قد هضمت أفكارها وأهدافها للجميع، وباتت عناصر الأمة كافة وطيدة الصلة بها.

ويرى نجيب محفوظ أن الأدب الصادق هو الذي يكون في سبيل الفن والحياة معًا، ولن يكون الأدب أدبًا إذا اختل أحد هذين العنصرين، فقصة تصور آلام الشعب وغير ذلك مما يبحث عنه بعض الكتاب، ولكنها مختلة من حيث ميزان القصة، فهذه لا تكون قصة. وقصة تُكتب تصور أشخاصًا لا اتصال لهم بحياتنا العامة، ليس من القصة في شيء أن تكتب. وليس هناك أدب في سبيل الفن وحده، وليس هناك أدب في سبيل الحياة وحدها، وإنما هو "فن" في سبيل الحياة.

ويوضح لأحمد عباس صالح (مجلة صباح الخير 17 يناير 1956) أن الأدب هو تعبير عن الحياة يستهدف إثراء الإنسان بالتجربة، ويمده بالوعي والعمق ليستفيد بها وهو يقرر مصيره على الأرض. ولهذا نتيجة حتمية إذ يلزم أن تكون التجربة عندئذ صادقة حتى لا يكون إثراء القارئ كاذبًا فتحدث نتيجة عكسية، وتجارب الإنسان عديدة ومتنوعة، ولهذا أرحب بالأدب ابتداء من الذي يسجل تجربة العادة السرية، إلى أدب الكفاح والبطولة، ولا أعتقد – بناءً على ذلك – أن الأدب الصادق الذي يسجل التجارب الإنسانية يجب أن يحارب حتى لو كانت التجربة جنسية بحتة.

وعندما يسأله صالح عن رأيه في الأدب الأمريكي المعاصر؟ يجيب: لم يعجبني غير فوكنر وشتاينبك، أما همنجواي فلم يعجبني له إلا رواية "الشيخ والبحر" وأنا عموما لا أتفاعل مع الأدب الأمريكي، وأشعر نحوه بغربة.

وعلى العكس من ذلك يرى أن عباس محمود العقاد هو الكاتب الذي رد اعتبار الأدب عنده. يتذكر ويقول: كنت في المدرسة الثانوية أتعلم أن الأدب يتقرب به الأدباء إلى الملوك والأمراء، ويدخلون القصور ويجلسون إلى الموائد، وظللت أحتقر الأدب إلى أن قرأت العقاد فأكسبه قدسية واحتراما جرني إليه. والعقاد هو الذي أدخل الفكر في الأدب.

ويتحدث كاتنبا عن الأدب المكشوف (مجلة الاثنين 19 يناير 1959) قائلا: أي أدب يجب أن نعتبره فنًّا حقيقيًّا، ما دام أساسه الرغبة في الصدق والخير من وجهة نظر الكاتب وهدفه الخدمة الإنسانية فإن وجد أدبٌ مكشوفٌ في هذه الحدود، فهو خير، أما أن تكون الرغبة مجرد الإثارة أو الكسب التجاري، فهو لا يعتبر فنًّا إطلاقًا، وبالتالي فهو ليس أدبًا.

ويؤمن محفوظ بالتخصص الأدبي على خلاف الجيل السابق عليه الذي كان يكتب في كل شيء، وهو يعتقد أن أي شكل أدبي؛ قصة أو مسرحية أو غير ذلك، كاف لأن يستغرق حياة الأديب.

ويتحدث لفؤاد دوارة (مجلة الكاتب يناير/كانون الثاني 1963) عن النزاع بين الأدب والفلسفة الذي سيطر على عقله وعقب تخرجه في الجامعة، وحسمه لصالح الأدب، قائلا: "لقد انتصر الأدب على الفلسفة، وبدأت أدرس الأدب بصورة منظمة". على الرغم من أنه كان الأعقل والأحكم أن يختار الفلسفة، ولكنه اختار الأدب، مؤكدا "لعله الاستعداد النفسي أو أي عامل داخلي آخر فليس لذلك تفسير واضح".

ويفسر ذلك في قوله: لما لم يكن لي مرشد من قريب أو أستاذ يوجهني، فقد اعتمدت على كتب تاريخ الأدب العالمي، مثل كتاب "درينكووتر" المشهور، واعتمادي على هذه الكتب جعلني أدرس الأدب قرنًا قرنًا دون أن أتخصص في أدب أمة بالذات، ووجدتني أنظر إلى الآداب العالمية، وكأنها أدبٌ واحدٌ لا آداب شعوب مختلفة. ولما كانت قراءاتي للأدب العالمي قد بدأت متأخرة، فقد اقتصرت على قراءة الروائع، ووجدت أن أسلم طريقة هي أن أبدأ بالعصر الحديث ما أمكن، وكان من أثر ذلك أن ضاعت مني فرصة قراءة بعض القمم الأدبية، لأني بعد أن قرأت تلامذتهم، لم يعد باستطاعتي أن أعود إليهم.

لقد بدأ نجيب محفوظ منذ سنة 1936 بقراءة الأدب الحديث الواقعي والطبيعي والقصة التحليلية، وبعد ذلك المغامرات الأدبية الحديثة كالتعبيرية عند كافكا، والواقعية النفسية عند جويس، وإلغاء الزمن في القصة عند بروست. ويرى أن جويس وبروست هما عماد الأدب الحديث في القصة كلها.

وبناء على نصائح بعض المفكرين – كالعقاد وتوفيق الحكيم – أقدم نجيب محفوظ على دراسة الفنون المتصلة بالأدب، فبدأ بالفنون التشكيلية، التصوير والنحت والعمارة، وقرأ كتب تاريخ الفن العالمي، الفن الفرعوني والإغريقي، وفن عصر النهضة، ثم الفن الحديث، حيث تتعدد المذاهب وتتنوع وتتعدد بالتالي الكتب والمؤلفات. أما الموسيقى فلها لغة خاصة لا تدرس في الكتب، فاستعاض بالسماع عن القراءة.

وعن وظيفة الأدب يقول نجيب محفوظ لمنير عامر (مجلة روزاليوسف 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1963) إن وظيفة الأدب الأولى أن ينقد. إنه يبحث دائما عن مواضع النقص ليبغي الوصول إلى الكمال. إن الكمال يعبر عن وجوده بأنه موجود، أما النقص فيحتاج إلى طاقات الإخلاص للبيئة حتى تكتشفه وحتى تعبر عنه، وإن وراء ذلك إخلاصًا عميقًا وشعلة متطلعة للإصلاح الذي يجب أن يحدث.

ويفاجئ نجيب محفوظ الكاتبة الصحفية سعاد زهير (مجلة روزاليوسف 1965) بقوله: المرأة .. هي مفتاح التطور الفني والأدبي بالذات، فعلاقتها بالرجل عنصر جوهري في كل عمل فني. ولذلك فإن الزاوية التي تؤخذ منها المرأة في العمل الأدبي، تصبح مقياس الكشف عن موقف الكاتب من التطور.

ويؤكد نجيب محفوظ عشقه للأدب في مقابلة محمود الخطيب معه (مجلة الطليعة يوليو/حزيران 1977) في قوله للخطيب إنك ستضحي بأي شيء في سبيل حبك للكرة، وذلك تماما كالأدب بالنسبة لي.

وعندما تسأله عائشة أبوالنور (مجلة آخر ساعة 6 أغسطس/آب 1980) عن أدب الشباب؟ يجيب: هو أدب المستقبل.

وتسأله هالة البدري (مجلة الإذاعة والتلفزيون 4 ديسمبر/كانون الاول 1982): لماذا ترتبط النهضة في الأدب بعصور دون غيرها؟ تكون الإجابة: هناك عصر كل شيء فيه صاعد في السياسة وفي الفكر وفي الفن مثل عصر المأمون، وعصور كانت استبدادية مغلقة وجاهلة، فكان كل شيء في هبوط مثل العصر التركي، كمثال واحد.

ويرى نجيب محفوظ في حواره مع صالح مرسي (مجلة المصور 3 فبراير/شباط 1984) أن واجب التلفزيون الآن هو الاهتمام بالأدب، فبرنامج يناقش كتابًا كل أسبوع، أو يقيم مسابقة لمناقشة هذا الكتاب تكون جوائزها مجموعة من الكتب، من الممكن أن يحرك الحركة الأدبية في مصر، وفي نفس الوقت، يعلن عن الكتب الجديدة، ولا يجب على التلفزيون أن يعتبر هذا إعلانًا، لأن واجبه في هذه المرحلة، أن يعلن عن الثقافة والفكر الرفيع.

ويرى نجيب محفوظ في حوار عماد الغزالي معه (جريدة الوفد 27 أغسطس/آب 1987) أن الصوت الأدبي أحد الأصوات المؤثرة في تغيير المجتمع. لكن تأثيره محدود لأنه يؤثر في القراء المثقفين، ولنر مثلا نسبة الأمية في المجتمع ثم عدد الأفراد المتعلمين الذين لا يقرأون، وهم "أميون" بدرجة ما، لكي تعرف محدودية هذا التأثير، لكن من حسن الحظ أن هذا الجزء البسيط يؤثر بدوره في مئات كثيرة في المجتمع، بمعنى أن تأثيره المباشر محدود. مثلا الرئيس جمال عبدالناصر قال إنه قرأ "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، وهو قرأها مع عدة آلاف، لكن عبدالناصر نفسه أثر في ملايين البشر، يضاف إلى هذا أن وسائل الإعلام الحديثة ساعدت في توسيع المجال التأثيري للأدب.