نحن وإسرائيل
بالرغم من أنها كيان مصطنع فإن إسرائيل صارت دولة طبيعية أما العراق الذي احتضن عبر العصور الحضارة الإنسانية بكل ألسنتها فقد صار بلد مكونات حسب دستوره الجديد الذي نص أيضا على أنه يمكن أن يكون بلد أقاليم، سيكون إقليم كردستان المستقل قدوة لها وهو دولة داخل الدولة. أما إسرائيل فإنها دولة موحدة بالرغم من أنها تضم بين سكانها قادمين من كل أنحاء الأرض وليست العبرية التي تجمع بينهم سوى كذبة. ذلك لأنهم بالرغم من مضي أكثر من سبعين سنة على استقرارهم على أرض فلسطين ما زالوا يتحدثون بلغاتهم الأصلية.
ما نسمعه عن التمييز بين اليهود الشرقيين السفارديم واليهود الغربيين الإشنكاز في إسرائيل ليس سوى رخاء إعلامي ذلك لإن الأمر لم يصل إلى التذابح الذي وصل إليه في العراق بين الشيعة والسنة وهم أتباع دين واحد وأبناء وطن واحد وقبائل واحدة. وهو ما يعني أن العراقيين لا يعترفون بالدين ولا يعترفون بالوطن. ما يُسعد الإسرائيليون يسوء العراقيين. لا لشيء إلا لأن اليهود في إسرائيل كانوا قد أجمعوا على بناء دولة أما العراقيون في العراق فقد أجمعوا على تفكيك دولة. تلك هي الدولة التي لم يرثوا سوى أخبارها السيئة.
حين قرر العالم أن يؤسس دولة لليهود، كان يعرف أن هناك شعبا يتوق لقيام تلك الدولة. أما حين قرر أن يفكك العراق وهو دولة قائمة بكل المعاني فقد كان يعرف أن هناك شعبا تقوده مرجعيات دينية لا ترى في الدولة المدنية إلا شرا مستطيرا. وهو ما يعني أن كل طرف أخذ ما يستحقه من الحياة ومن الموت.
تحتضن إسرائيل علماءها ومفكريها وموسيقييها وفنانيها وأطباءها ومهندسيها فيما عمل العراق الجديد بعد تحرره الزائف من طغيان الفرد على تشريد وقتل علمائه وأطبائه وأدبائه وفنانيه ومفكريه. من بين مَن حصلوا على جائزة القدس التي تهبها البلدية الإسرائيلية أذكر سوزان سونتاج، برتراند رسل، خورخه لويس بورخيس، اسماعيل قادري، هاروكي موراكامي، ماريو فاررغاس يوسا، ميلان كونديرا، أوكتافيو باث، وسيمون دي بوفوار، وكلهم من كبار مفكري وأدباء عصرنا. أما بغداد، المدينة العراقية وصاحبة العصر الذهبي فإنها وصلت من الانحطاط الحضاري إلى درجة أن شوارعها تحتفي بصور قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وسواهما من القتلة.
أقيمت إسرائيل على أساس ديني. اليهودية هي شرط المواطنة فيها. غير أن الدولة محكومة بقوانين وضعية لا يمكن اختراقها باسم الدين. أما العراق فإنه منذ التأسيس دولة مدنية أساسها المواطنة غير أن ما انتهى إليه يؤكد أنه ذاهب إلى قفص الدولة الدينية الذي لن يخرج من ظلامه عبر عشرات السنوات. ومنذ بدء إنشائها على أرض فلسطين مشت إسرائيل في طريق التحديث والعصرنة الغربي اما العراق فقد فشلت محاولاته الجادة في الخروج من الإرث العثماني حين سلمه التذابح الحزبي للحروب التي سلمته لزمن ظلامي صارت فيه إيران هي قدوته.
في غضون 12 سنة دفعت ألمانيا قرابة الـ 3 مليارات مارك ألماني غربي إلى إسرائيل تعويضا لما تعرض له ضحايا الهولوكوست (المحرقة النازية) كما تعهدت الحكومة الألمانية بدفع راتب مدى الحياة لكل شخص يثبت أنه تعرض للمطاردة أثناء الحكم النازي. أما العراق فإن حكوماته المتتالية عملت على إفشال أي مسعى في إطار القانون للمطالبة بتعويضات من الولايات المتحدة لضحايا غزوها وحربها في العراق والتي لم تكن حربا قانونية. وما شهده سجن "أبو غريب" من فضائح اهتزت لها البشرية جمعاء واعترفت بها الإدارة الأميركية يستحق ضحاياه الاعتذار والتعويض. ولكن العراق دولة لا تراعي حقوق ومصالح ومشاعر مواطنيها.
سنتعب من المقارنة ونصل إلى النتيجة نفسها.
بنى الإسرائيليون وجودهم من العدم ونحن بعد عشرات السنين من المحاولة رجعنا إلى مرحلة ما قبل الصفر. يتمنى الكثيرون لو أن الصفر ممكنا في حساباتنا. لقد التهمت الخرافة شعوبنا وصرنا نهذي بمرويات تكشف لكل عاقل إصابتنا بالعته أو بخرف الشيخوخة. هرمت شعوبنا وعادت إلى المستنقع الذي كانت فيه قبل الاستعمار الغربي.
ليست إسرائيل أثرى من العراق، ولكنها استعملت كل ما يردها من أموال في تطوير مجتمعها علميا وتطوير دفاعاتها وتأسيس بنيتها التحتية والثقافية والمساهمة في سوق الاقتصاد العالمي عنصرا إيجابيا. ولو سأل أحد "أين ذهبت ثرواتنا التي لم يكن لنا يد في استخراجها؟" لأكتشف أننا فعلنا كل ما من شأنه أن يدمر مستقبلنا ويلغي وجودنا ويعيدنا إلى مرحلة ما قبل النفط. أمة تستجدي شفقة الآخرين.