نصائح الخبراء، وقارعو طبول الحروب

الإعلام يحشد مثلما تحشد الجيوش. الإعلاميون جنرالات مثلهم مثل العسكر.

بعد ان تسلم جون كنيدي منصبه، رئيسا لاميركا مطلع العام 1961 التقى سلفه الرئيس ايزنهاور، وكان من ابرز نصائح الرئيس السابق للرئيس الجديد "عند وقوع الازمات اياك ان تستشير الجنرالات، فهم دائما مستعدون للحرب"! وانقل هنا بالمعنى القريب من النص. ايزنهاور رجل دولة، وعسكري خبير، شارك في الحرب العالمية الثانية، ويعرف ماذا تعني الحرب.

بعد اقل من عامين على ولاية كنيدي، حصلت ازمة غير مسبوقة في العالم، من حيث خطورتها، والمعروفة بازمة الصواريخ الكوبية بعد ان اكتشف الاميركان، ان صواريخ نووية روسية موجهة اليهم من اراضي كوبا الشيوعية. وقف العالم وقتذاك على قدم واحدة، وحرب عالمية ثالثة نووية باتت تلوح في الافق، والرئيس الشاب كنيدي، هو من كان عليه ادارة هذه الازمة التي يجب ان تخرج منها اميركا منتصرة، أي تجبر الروس او السوفييت على سحب صواريخهم الموجهة للاراضي الاميركية، لكن من دون حرب نووية. وكان عليه ايضا ان لا يستشير الجنرالات في كيفية التعاطي مع الازمة، بل يستشير اهل الراي الخبرة من مستشاريه، مسلحا بنصيحة سلفه ايزنهاور، مع طلبه من الجنرالات ان يهيئوا الخطط العسكرية اللازمة، بصفتهم قادة القوات المسلحة. بعد ان انتهت الازمة وسحب السوفييت صواريخهم، اثر تدخل امين عام الامم المتحدة يوثانت، انهالت البرقيات على الكرملين مهنئة خروتشوف على قراره "الجريء" بسحب صواريخه، وتنفس العالم هواء الله النقي بدلا من الغبار الذري، الذي كاد يغطي السماء ويخنق كل من على الارض، لكن اسرارا خطيرة عنها، بقيت في ذمة الوثائق السرية، والتي كشف البعض منها لاحقا، اذا تبين ان الرئيس الكوبي فيديل كاسترو، طلب من رفاقه السوفييت توجيه ضربة لاميركا، لكن الكرملين لم يأخذ بطلبه، بل طلب تعهدا اميركيا بعدم مهاجمة كوبا. وبعد هذا الدرس الكبير، اتفق الطرفان، الاميركان والروس، على ان يفتحا خطا ساخنا بينهما، لتفادي مواجهة نووية محتملة لاحقا.

تعيش منطقة الشرق الاوسط اليوم ازمة كبيرة، تتمثل بالمواجهة بين اميركا وايران، وتحتشد البوارج وحاملات الطائرات الاميركية في الخليج، استعدادا للمواجهة التي لا يريدها أي انسان عاقل، سواء في اميركا او ايران او في أي بقعة من العالم، لاسيما الشرق الاوسط المبتلى بالحروب والازمات المتوالدة. وعلى وقعها صار الاعلام يسمعنا بشكل يومي تهديدات من بعض مسؤولي الطرفين، تتضمن لغة تهديد ووعيد لبعضهما. واذا كان هذا مفهوما بوصفه احدى وسائل الضغط، فان من غير المفهوم ان يتجند البعض من خارج البلدين بالدعوة الى الحرب وقرع طبولها، ولعل هؤلاء يريدون من هذه المزايدات ان يقولوا، كلّ الى الجهة التي ينحاز اليها، بانه الحليف والصديق المخلص والمستعد للتضحية لاجلها. لكن هذه الرسائل الخطرة، لا يمكن تجاهل تأثيرها على المزاج العام، لاسيما حين يضعها طرفا المواجهة في سياق التصعيد المتبادل، وتقرأ على انها جزء من الاعلان عن مساحة التحدي المتبادل لكل منهما، أي توسيع ميدان المواجهة والدفع نحوها لتشمل اغلب دول المنطقة.

لا شك ان الذين يدفعون الى المواجهة العسكرية، لا يملكون سوى ورقة الحروب ليثبتوا وجودهم ومصالحهم الشخصية والجهوية، اكثر من أي شيء اخر، ويعرفون تماما ان لا مصلحة للشعوب في هذه الحرب، لكنهم يتحدثون باسم الشعوب لتأجيجها.