هؤلاء أنقذوا دماغ هتلر

رولان بارت يبين أنّ البحوث التي تربط الذكاء بالمادّة العصبيّة تجرّد الإنسان المعاصر من الحسّ النقدي.
أحداث فيلم "هؤلاء أنقذوا دماغ هتلر" تدور حول إمكانية إحياء الفكر النازي
بعض النازيين احتفظوا إثر الحرب العالمية الثانية، بدماغ أدولف هتلر وأخفوه في جزيرة ماندوراس الخيالية في أميركا الجنوبية،

إيمان الرياحي

يبيّن الفيلسوف والناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه "أساطير"، وتحديدا في مقاله المعنون بـ "أسطورة دماغ أنشتاين" أنّ البحوث التي تربط الذكاء بالمادّة العصبيّة تجرّد الإنسان المعاصر من الحسّ النقدي. إنّ النزعة العلميّة بهذا المعنى، تثير الفضول وترسّخ ثقافة المشهديّة لأنّها تحوّل الأفراد إلى متفرجين ومكتشفين لمادة متخفية وملغزة هي الدماغ. 
يبدو الباحث، في هذا السياق، أشبه ما يكون بالمتطفّل على الخصوصيات الفيزيولوجيّة لشخصّ مّا بل هو الساحر الذي سيكشف المستور ويفكّ شفرات الرموز الذهنيّة. في نهاية المطاف قد يصرفنا كلّ ذلك عن البحث في الأمور الواقعيّة والأحداث العينية التي بموجبها يتطوّر الفكر.
يقول بارت ساخرا من الدراسات التي انشغلت بدماغ أنشتاين "تحتوي أسطورة دماغ أنشتاين على شيء من السحر حتّى أنّه يقع الحديث على فكره كما لو كان آلة تصنيع ميكانيكي للنقانق أو آلة لطحن الحبوب أو مكنة لتفتيت المعادن: ينتج دماغ أنشتاين الفكر باستمرار كمطحنة دقيق وكان الموت بالنسبة له، بدرجة أولى، عبارة عن توقف لوظيفة متعيّنة في المخ: لقد تعطّل أعظم دماغ عن الإشتغال".
إنّ سياق الإثارة والتشويق حول أسرار الجهاز العصبي في بداية القرن العشرين لم يكن مقتصرا على السياق العلمي بل شمل المجال الأدبي والميدان الفني أيضا، نذكر كمثال على ذلك فيلم الخيال العلمي المعنون هؤلاء أنقذوا دماغ هتلر1968 من إخراج ديفيد برادلي. وقد تم اقتباسه من فيلم تلفزيوني قصير (1963) Madmen of Mandoras إنتاج كارل إدوارد.
تدور أحداث فيلم "هؤلاء أنقذوا دماغ هتلر" حول إمكانية إحياء الفكر النازي إذ احتفظ بعض النازيين إثر الحرب العالمية الثانية، بدماغ أدولف هتلر وأخفوه في جزيرة ماندوراس الخيالية في أميركا الجنوبية، ثمّ اختطفوا عالما وطلبوا منه بثّ طاقة في المادّة العصبيّة وذلك حتى يتمكنوا من بناء الرايخ الثالث. فكأنّما الفكر السياسي وحدات مشفّرة في رأس القائد، وكأنّما استمرارية تلك الإيدولوجيا النازية لن تكون ممكنة من دون تلك الشفرة. في المقابل تفطّنت جماعات سياسية لذلك وعملت على إفشال ذلك المخطّط. 
ما زالت شخصيّة هتلر إلى يومنا هذا تشّد الانتباه حتّى أنّنا نعثر في مؤلّفات معاصرة على نصوص تبحث من جديد في فكر هتلر وفي من أثّر فيه من ذلك كتاب يوميات الشيطان؛ أسرار ألفريد روزنبيرغ دماغ هتلر الصادر عن دار لافون للنشر سنة 2016  لمؤلفيه روبرت ويتمان عضو سابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي والصحفي ديفيد كيني.  

تهالكت على سريري
أسرار الجهاز العصبي 

لكن ما الذي يثير فضول الباحثين في شخصيّة هتلر؟ ما الفائدة الحاصلة من البحث في تركيبته العصبيّة والنفسيّة؟ إنّ ما يعنينا هنا هو أنّ البحث في الخاصيات البسيكو فيزيولوجيّة  للقائد السياسي قد لا يرتبط بالإثارة والفضول فقط، إنّما هو يندرج في سياق التفكير في فن قيادة وعلم التحكّم.
يتصوّر بعض المختصين في علم النفس أنّ السياسي كان يعاني من اضطرابات في الشخصيّة وذلك لغرابته وعنفه وحدّة طباعه غير السوية هذا مع تهوّره وعجزه عن التحكّم في انفعالاته وسلوكاته كما رجّح الأطبّاء النفسانيون أنّ اضطراباته النفسيّة ترتبط أساسا بالهستيريا وجنون العظمة.  
تقترن الهستيريا بالمبالغة والتهويل في وصف الأحداث والتعبير الدرامي عن المشاعر، والمصاب الهستيري نرجسيّ ويعتبر نفسه مميّزا وساحرا حتّى أنّه يسعى دائما لإثارة عواطف النّاس وتحفيزهم قدر المستطاع وذلك باستخدام الاستعراض والإيحاء لشدّ انتباههم أكثر ما يمكن من وقت. 
تجّلت عوارض هذه الاضطرابات لدى هتلر عند إصابته بالعماء الهستيري وهو عبارة عن انفعال شديد مصحوب بعطالة في العصب الحسّي البصري غير مرتبطة بأسباب عضوية ويرجع ذلك عادة إلى صدمة نفسيّة حادّة أو إلى تعرض لحادث أو لجرح أو لحرق بليغ.
مرض هتلر أثناء الحرب العالميّة الأولى عندما تطوّع للخدمة العسكريّة وانضم لفوج المشاة الألماني الاحتياطي السادس عشر إذ استنشق يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 1918 غازا ساما يعرف بغاز الخرذل ويسمّى أيضا بغاز الصليب الأصفر إثر سقوط قذيفة غاز بريطانية بالقرب من أيبرس ببلجيكا فأصيب بحروق وبفقدان للبصر ونقل إثر ذلك للمستشفى العسكري بمدينة بازهفالك حيث تعافى لكن فقد بصره مرّة أخرى وعلى نحو مؤقت لأسباب نفسيّة هذه المرّة فقد انفعل وغضب بشدّة وحزن لاندلاع ثورة نوفمبر وانهزام ألمانيا في الحرب العالمية الأولى 1918. لقد حوّلت تلك الثورة نظام ألمانيا من نظام ملكي فيدرالي دستوري إلى جمهورية برلمانية ديمقراطية.
 أثّر ذلك على هتلر وصدمه لدرجة إصابته بالعمى الهستيري وقد وصف بنفسه هول ذلك الحدث التاريخي ووقعه عليه في كتابه "كفاحي" وتحديدا لمّا استحضر عبارات القس الذي ألقى خطابا بالمستتشفى العسكري. أكثر ما استفزّ القائد النّازي حينها هو وصف الرجل لألمانيا بالبلاد المضطرة للهدنة لكونها تحت رحمة العدو المنتصر. 
قال هتلر"عندما وصل القس إلى هذا الحدّ فقدت السيطرة على أعصابي ولم أعد أقوى على سماع المزيد، فغادرت القاعة أتلمّس طريقي إلى ردهة المنامة حيث تهالكت على سريري ودفنت رأسي الملتهب تحت المخدّة والغطاء" وقد صمد السياسي بفضل سماعه لصوت ما انفكّ يحثّه على الثبات ويدعوه لنصرة ألمانيا وقد اعتبر الأطبّاء ذلك ضربا من الهلوسة الصوتيّة ودليلا آخر على الهستيريا. 
إنّ  ما يؤكّد اضطراب هتلر هو أرقه المتوصل واستعماله لمواد مخدّرة مثل الميثامفيتامين الذي يؤثّر على الدماغ ويوهم متعاطيه بالعنفوان والسعادة ويهبه الحماس والثقة بالنفس، واستعماله الكوكايين الذي ينبّه نشاط الجهاز العصبي ويحفّز صاحبه حتّى يجعله يتوهّم القوّة والفرح ثمّ الخوف والوسوسة وفي مقابل هذه المواد المنشطة والمحفّزة كان هتلر يستعمل  مخدرات وعقاقير مهدئة  كالباربتيورات المضاد للتشنجات والمثبط للجهاز العصبي المركزي والأفيون المنوّم وبروميد البوتاسيوم المسكّن.
بالرغم من توفر معطيات عديدة تخصّ حياة هتلر؛ طفولته القاسية وشبابه وتشرّده وفشله الأكاديمي وبالرغم من ثراء المقاربات الطبيّة حول أمراضه، لم يحسم الدّارسون إلى اليوم في توصيف دقيق ونهائيّ لخصوصيات القائد الفيزولوجيّة والنّفسية تلك التي يفترض أنّها أثّرت على سلوكه السياسي.