"هزائم الريح" والإشراقات الإبداعية
هيام الفرشيشي
الحدس هو تلك الطاقة النورانية التي تلتقط حقيقة ما سواء كانت روحية أو فكرية أو مادية، هو كأشعة تنعكس على زهرة تتفتح فجرا مضمخة بالندى. رؤية جمالية للعالم وللإنسان في رحلته الابداعية، إذ يرى الفيلسوف الأميركي بيري في كتابه "آفاق القيمة" أن "القدرة الحدسية التي تمكن الادباء والرسامين وغيرهم من مبدعي الفنون هي ذاتها التي تمكن العلماء من رؤية الاتساق الذي يجمع بين الوقائع ويزيح الستار عن الحقائق المخبوءة".
والشاعر أحيانا، وهو يحتوي الحقيقة الغائبة كعالم أدرك قانونا ما يسير الطبيعة إنما ينغمس في عالم الفوضى ليعثر على خيط شفاف رهيف يبني من خلاله نسقه الفكري الوجداني. فما عاشه وما تمثله وما اختمر في باطنه ينكشف على شكل فكرة تراود الصور القديمة ليتخيل من خلالها صورا جديدة أكثر تركيبا وقد لامست الفكر. إنه اندماج بين أعماق النفس وما ترسب فيها من صور ورؤى وإيقاعات مختلفة ودمج الباطن مع الظاهر للتعبير عن الإشراقات الإبداعية، وما الإبداع غير إشراقات المعاني المعتقة؟!
وفي ديوان "هزائم الريح" لمحمد الطاهر السعيدي تماهينا كقراء مع ولادة الفكرة وحالات الاستبصار والتخييل الشعري.
صور بعيدة مغلفة بخبرات حسية جمالية تشرق في لحظات خاصة تعيد التمظهر في نسيج جديد، في عالم متنام خلاق يرنو نحو رؤية جديدة
إشراقة الفكرة
في الجزء الأول من الديوان المعنون بفكرتي ابتكرتني، يسبر الشاعر أغوار الفكرة التي تولد بعد حالة الصراع مع الأفكار القديمة التي تولد ميتة في أكفانها وتتهاوى جثثها في كتب التاريخ إذ تحتفي بالموت ولا ترى العالم من حولها بنورة البصيرة. إن غاب عنها نور الإشراق وخفتت لمعة الحياة تصبح متكلسة مميتة لا تعبر عن سيكولوجيا الإبداع.
يعي الشاعر أنه يكتب ليبدع حين يكتشف الإله في قلبه يزوده بقبس من روحه، ليكتشف العالم من جديد مخلفا دهشة أشبه برجع الصدى في الفضاء الصامت المفتوح على أصوات الطبيعة والطير:
عصفور يزقزق على سدرة، نعيق غراب على تلة، نهيق حمار في فج، نفحة ثعبان في جحر، نقيق ضفدع في بركة.
إنه يصغي إلى عوالمه النفسية القصية والبعيدة حيث تحل أقفال اللغة حاملة معها صورها الجديدة كحلم ثمل يطرب من يرتشف منه. إنها لحظة اكتشاف وكشف عن ذرة مزروعة في الخلاء بعيدا عن الضجيج وعن سلطة العقل الواعي.
من تلك الذرة تنمو الفكرة، وتقدح من خلال صور حلمية هاربة من الذاكرة البعيدة. إنها تقتل الأفكار الأخرى لا تقتات من جثثها لتنبلج متفردة متجردة من أفكار مستنسخة أو صور جاهزة. تولد الفكرة حين يلامس الشاعر تحديات اللغة حيث الإله وحيث المطلق وحيث المعرفة الحدسية التي تتجاوز حدود العقل إلى البصيرة.
طارت الفكرة في السحاب/ ومازال في يدي بعض ريشها
الفكرة هي الإشراقة التي تنجلي كلمعات تضيء، انبثاق من الحدس ولكنها تعانق الروح العليا، كطائر الوحي يعيش في عالم نوراني مقدس ويستعير الشاعر مفردات الريش ليعبر عن التشكيل ورسم الصور. فهي كروح محلقة تلامس أعماق النفس في حالة الصمت والتأمل والإصغاء والحلم بلحظة غائبة بكر.
قبل أن تكوني لحما ودما/ كنت فكرة
إن اللغة هي كساء للفكرة وهي أشبه بإشراقة حدسية خلاقة لعوالم إنسانية فهي تؤنسن الحلم ولا مجال للغة لم تنفث فيها إشراقات الحدس. إنه الاستبصار يؤدي إلى التخييل الفني بعد الصراع مع التصورات المدركة والبحث عن تشكل جديد للفكرة.
كان نيوتن نائما تحت الشجرة / فجأة سقطت على رأسه فكرة/ كانت بحجم الأرض أو يزيد/ ظنها نيوتن تفاحة.

اكتشاف حقيقة غائبة أو فكرة مخفية في لمح البصر عبر إدراك حدسي لكنها فكرة انبلجت من عقل مفكر متمرس بالتفكير مهيء ومتيقظ لالتقاط فكرة في طور التشكل وكان تفكيره تأمليا تخييليا وليس مجرد تفكير منطقي.
الإشراقة الإبداعية
رأيت زهرة برية / خرجت من واد سحيق/ كانت إلى جانبي/ كانت هي
الإشراقة الإبداعية هي الرؤية في الظلام، في تجاويف النفس القصية، الجمال الوحشي الذي يعلن عن نفسه في مكان ناء. إنها اكتشاف حقيقة الجمال، حيث يستحضر صورة طفولية بعيدة تركت إشراقتها وجمالها في تلافيف الذاكرة وحركت اللاوعي الخلاق في لحظة صفاء أشبه بانبثاق الضوء من نجمة بعيدة أو استنشاق عطر مضمخ في النفس، يتآلف مع طبعها الأولي. فالإنسان يتشكل من آثار الجمال عليه صورا طبيعية، نورا، نسمات، ريح ترقص في فج بعيد وتعزف على أكثر من آلة تلاحق طفلا كزهرة برية ليحميه الفارس ويردعها. يتشبث بشجرة. يتراءى الثلج كحمامة بيضاء وتنجلي أشعة الشمس تبلل الصباحات يحتضن حرارتها لا حول لها ولا قوة ولكن جذعها جاثم غامض وشامخ ومهيب، ألوان وظلال، خبرات حسية كذلك الشعر لا ينمو بين الجدران المسيجة قد يستظل بشجرة قديمة أو زهرة برية أو واد سحيق.
إن لغة الحدس الشعري تأتي معتقة لأنها تسترجع اللحظات الجمالية البعيدة بكل خبراتها وما حققته من انتشاء وغبطة.
صور تتكرر على غرار الشجرة والريح والزهرة البرية والشمس والثلج كلها عناصر الوجود التي لامست جسده وأثارت حواسه وجعلته ينمو وتحدد قسماته وتشكل وعيه وهو يشكلها بصور مبتكرة ويشخصها ويجسدها في هيئات مختلفة، إنها تأتي من أعماق الذاكرة تنشر بهاءها ونورها وتتشكل بصور مدهشة بعيدا عن الوصف بل تتحول الشخوص إلى هيئات إنسانية. إنها صور بعيدة مغلفة بخبرات حسية جمالية تشرق في لحظات خاصة تعيد التمظهر في نسيج جديد، في عالم متنام خلاق يرنو نحو رؤية جديدة. إنها تعبير عن خبرات ذاتية عن حالات انتشاء تسكر وتطرب من أصغى إلى رنينها الآتي من بقاع بعيدة يحركها الريح فيسربلها بكساء الروح.