هل انتهت حقبة التعليم المجاني في تونس؟

تردي البنية التحتية للمدارس العمومية والارتفاع المشط في أسعار اللوازم المدرسية والصراع المستمر بين نقابات التعليم ووزارة التربية ساهمت في تنامي ظاهرة الهجرة نحو المدارس الخاصة.
ارتفاع تكاليف التعليم من أسباب التسرب المدرسي
المدرسة الخاصة أكثر ملاءمة لظروف العائلة الحضرية
الاحتكار والمضاربة يزيدان في تكاليف اللوازم المدرسية
تونس

أعادت الزيادة في تكاليف العودة المدرسية الجدل حول مدى صمود منظومة التعليم العمومي في وجه الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تونس منذ سنوات، فضلا عن تعزيز مخاطر التسرب المدرسي خاصة في الأوساط الاجتماعية غير القادرة على الانخراط في منظومة التعليم الخاص و"المكرهة" على المكوث بالمدارس العمومية التي تحولت في جزء منها إلى حلبة صراع بين وزارة التربية والهياكل النقابية.
وتنطلق السنة الدراسية الجديدة الخميس القادم وسط مخاوف من تعثر واحتقان يسودان أجواء العودة بعد تهديد نقابة التعليم الثانوي باتخاذ جملة من "الإجراءات النضالية" بالتزامن مع انطلاقة السنة الدراسية الجديدة.
وقال الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الثانوي نبيل الحمروني في مداخلة إذاعية الأسبوع الماضي  إن "العودة المدرسية لن تكون سلسة وعادية بل ستكون مضطربة وصعبة جدا".
وقررت النقابة تنفيذ وقفة احتجاجية في أول أيام السنة الدراسية الجديدة الخميس القادم، فضلا عن قرار حجب أعداد الثلاثي الأول للسنة الدراسية وعدم تسليمها للإدارة والطلاب إلا بعد تحقيق مطالبهم، وهي مطالب مادية بالأساس تم الاتفاق حولها مبدئيا مع الحكومات السابقة ولم يتم تنفيذها إلى الآن.
وزيادة عن القلق الذي يشعر به الأولياء إزاء تلك الأجواء المشحونة، تجد الكثير من العائلات نفسها في مأزق أمام الارتفاع المشط في أسعار الكتب والدفاتر وباقي اللوازم المدرسية بشكل يفوق الضعفين في بعض المواد.
وصرح رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك، لطفي الرياحي للإعلام المحلي الجمعة الماضية، أن تكلفة التلميذ الواحد في العودة المدرسية المقبلة ستكون في حدود  800 دينار (حوالي 250 دولار)".

مجانية المدرسة التونسية تأسست قبل أكثر من 60 عاما وفق تصورات الزعيم بورقيبة

وأفاد أن أسعار اللوازم المدرسية ارتفعت بنسبة 20 بالمئة مقارنة بالسنة الماضية. 
ونفت وزارة التربية وجود ترفيع في سعر الكتاب المدرسي بالنسبة للموسم الدراسي الجديد، مؤكدة توفرها في السوق بنسبة 95 بالمائة.
ويؤكد بعض الأولياء أن الحقيقة أبشع مما ذكرته وزارة التربية ومنظمة إرشاد المستهلك نظرا لعمليات المضاربة والاحتكار التي طالت المواد المدعّمة من الدولة عبر صندوق التعويض ليتم فرض مواد مستوردة خارج إطار منظومة التعويض بأسعار مشطة، الأمر الذي يفرض إعادة التفكير في مدى واقعية فكرة مجانية التعليم في تونس.
وتأسست مجانية المدرسة التونسية قبل أكثر من 60 عاما أي منذ القانون الصادر سنة 1958 المتضمن لتصورات الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في تعليم مجاني وإجباري على الجميع إناثا وذكورا للقضاء على نسبة الأمية التي كانت متفشية في تونس في خمسينيات القرن الماضي عند تحرر البلاد من الاستعمار الفرنسي.
وأكد العضو في نقابة التعليم الابتدائي منير الحيوني في تصريح خاص لـ"ميدل إيست أونلاين" أن كل الظروف التي يمر بها التعليم اليوم يؤكد أن مشروع التعليم العمومي المجاني الذي أرساه الزعيم بورقيبة قد وقع تهميشه.
وأضاف أن "كل المؤشرات تدل على ذلك سواء من حيث تردي البنية التحتية أو ارتفاع نسبة التسرب المدرسي أو تنامي ظاهرة الهجرة نحو المدارس الخاصة". 
ويشير بعض المتابعين إلى أن الخدمات العمومية تراجعت بشكل كبير في السنوات التي أعقبت الثورة التونسية في 2011 على غرار الصحة والنقل إلى جانب التعليم.
وأمام تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من عقد من الزمن، تآكلت الطبقة الاجتماعية الوسطى لنجد إما عائلات ميسورة جدا أو عائلات فقيرة جدا. 
وتوجهت معظم العائلات الميسورة بأبنائها نحو المدارس الخاصة التي تنامى عددها في السنوات الأخيرة بينما هجر عدد من أبناء العائلات الفقيرة مقاعد الدراسة بتواطئ من الأولياء أنفسهم الذين لم يعودوا قادرين على تحمل نفقات التعليم. 

التعليم في تونس مهدد بالانقسام بين تعليم عمومي متواضع الخدمات وتعليم خاص رفيع الخدمات

وأفاد المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016-2020، الذي أصدرته وزارة التربية سنة 2016، أن المدرسة الخاصة تشهد إقبالا متزايدا من فئات اجتماعية مختلفة بسبب "ملاءمة الحياة المدرسية بهذه المؤسسات لظروف عيش العائلة في الوسط الحضري، والبحث عن تكوين جيد للأبناء والتمدرس المبكر وكذلك توفر آليات المتابعة والمرافقة وإلى ملاءمة الزمن المدرسي لهذه المؤسسات للزمن الاجتماعي وإيقاع الحياة". 
وأشار التقرير إلى أن هجرة المتعلمين إلى القطاع الخاص، جعلت التعليم في تونس "مهددا بالانقسام إلى نظامين: نظام عمومي متواضع الخدمات لفائدة حشود من المتعلمين الفقراء ونظام خاص رفيع الخدمات لفائدة أقلية محظوظة".
ونشر منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في 2021 دراسة حول واقع التعليم في تونس، بينت أن المنظومة التعليمية في البلاد دخلت في أزمة هيكلية تسببت في موجة تسرب واسعة للتلاميذ في الأعوام العشرة الأخيرة.
وأفادت أن خطر التسرب المدرسي يتفاقم مع تقدم الطلاب في العمر عندما يزداد حجم المصاريف المدرسية من جهة ويصبحون قادرين نسبيا على الولوج لسوق الشغل، وإنْ كان بشكل عشوائي.
ويعتقد محللون أن الحكومات المتعاقبة فشلت في إصلاح منظومة التعليم العمومي في تونس لعدم وعيها بالرهانات النوعية المتعلقة بمراجعة الدور العلمي والاجتماعي والقيمي للمدرسة التي كانت تمثلا مصعدا اجتماعيا للنجاح والتفوق.
ويخشى البعض من أن تتحول المدرسة العمومية لوكر لليائسين والفاشلين أمام سلعنة (تسليع) التعليم وتكريس التفاوتات الاجتماعية والجهوية التي تسربت إلى سوق الشغل الذي بات في جزء منه يفضل خريجي التعليم الخاص.