هل يمكن للشعر أن يغيّر العالم؟

قراءة في ديوان 'من وجهة نظر الفراشة' لعذاب الركابي.

هل يمكن للفراشة برفرفة جناحيها أن تحدث أثرا في العالم أو أن تغير شيئا فيه؟ تجيبنا نظرية الفوضى أن الأشياء الصغيرة والتافهة أحيانا هي التي يمكن أن تغير العالم. وقد استطاع العلماء بهذه النظرية أن يفسروا عددا من الظواهر الطبيعية، لتنتفي بذلك فكرة الصدفة. وهو ما أكده عالم الرياضيات والأرصاد الجوية إدوار لورينتز (1963) حين بيّن أن حدثا صغيرا تافها (كرفرفة جناحي فراشة) يمكن أن تنتج عنه سلسلة من الأحداث المتتابعة المترابطة، مثل ما يحدث عند تحريك قطعة دومينو أو اندلاع حريق بسبب شرارة صغيرة في غابة. وهو ما تأكد أيضا بعد انتشار فيروس صغير في عديد البلدان سنة 2019 (كورونا) محدثا تحولات مهولة في أنحاء العالم.

"أثر الفراشة" يعني أن "رفرفة جناحي فراشة يمكن أن تسبب دمارا في أقصى أنحاء العالم" فكيف إذا كان الأمر يتعلق بنظرها ورؤيتها؟ "من وجهة نظر الفراشة" (1) هو عنوان ديوان جديد للشاعر والناقد العراقي عذاب الركابي، يبدو الشاعر فيه عاقدا العزم على إعادة تشكيل اللغة وتعريف الوجود في قصائد تتلون بألوان فراشاته، وتنبع من رؤيتها الخاصة. فكيف ستجلو اللغة فيه رؤية الفراشة للإنسان وللعالم؟

ينحت عذاب الركابي في هذا الديوان قصائد نثرية مكثفة، يحاول فيها تفكيك بعض طلاسم الوجود، راسما "الإنسان" عبر وجوهه المختلفة، انطلاقا من رؤى الشاعر وتجربته الشخصية. وبما أن الشعراء- كما يقول الركابي في هذا الديوان - يكتبون "في سعي دؤوب لتجميل الحياة / وتأجيل نهاية العالم / فكّ شيفرة العالم المتاهة / وضع تعريف آخر للوجود"، فإن جل قصائد "من وجهة نظر الفراشة" ستسعى إلى فك طلاسم الوجود، بل وإلى إعادة تشكيل العالم وتعريفه شعرا.

الكائن الذي حارت البريّة فيه:

يبحر الشاعر في تشعبات الذات البشرية، في هذا الكائن العجيب "الذي حارت البريّة فيه"، يغوص في أعماق الذات موجها الأضواء نحو الزوايا المظلمة والخفية حيث تتوهج كيمياء الشعر وترتحل الكلمات إلى الأعماق ويبحر المجاز. يحلّق الشاعر  بأجنحة الفراشة أو ينظر بعينيها ليرى العالم الذي أرهقه، أو ليعيد تشكيل الكون شعرا، ينحت ملامحه بمفردات قاموسه الشعري وصوره وأخيلته.

غير أن قاموس الوجود في هذا الديوان لن يحتفي بالطبيعة، ربما لأنها كانت مدار شعر الهايكو الذي أسس عذاب الركابي ملامحه العربية وخاض في شعابه في عدد من الدواوين، منها "ما يقولهُ الربيع- تجربة في الهايكو العربي"، و"رسائل المطر – هايكو عربي" و"العصافير ليست من سلالة الرياح" .. 

لذا نرى فراشة عذاب الركابي في هذا الديوان توجه نظرها إلى الإنسان، ترتحل في شعاب علاقاته بالآخر وبالحياة، تتأمله وتغامر بتعرية أعماقه وكشف أسراره. فتتلوّن عناوين القصائد وفق صور هذا الكائن الاجتماعي. يرسم الشاعر في ديوانه ملامح الإنسان وهو يخوض مغامرته مع الزمن والحياة (الأطفال- الرجال – النساء). ينسج صورته انطلاقا من صلته بالفنون (الشعراء – الروائيون- التشكيليون) أو علاقته بالمال والمناصب (اللصوص- الفقراء-الانتهازيون). وقد يشكل هويته بناء على اتجاهاته الفكرية (المتأسلمون–الأيدلوجيون) أو أصناف علاقاته الاجتماعية (الأصدقاء – الطيبون – الأهل – الأعداء) أو صلته بالسلطة وبالوطن (الحاكمون- الطغاة- الوطنيون). والإنسان في هذا - المعجم البشري- لا يعرّف إلا في صيغة جمع، متناغم في السمات رغم الكثرة، ما عدا "الوطن "فقد خصّه الشاعر بقصيدة وسمها باسمه الوطن"، ليكون مفردا في صيغة الجمع.

وبما أن الوطن هو الفضاء الذي يسع كل أصناف البشر الذين رسم الشاعر ملامحهم وكشف أعماقهم، فلا عجب أن يكون فضاء المفارقات والمتناقضات، يسع الأحلام والأحزان: "في الحلم / نعيشه فردوسا أرضيا / وفي اليقظة/ نافورة هموم وأحزان". بل قد يغدو في نظر الشاعر تلك "الكذبة المرعبة والتركيبة الغامضة" ...

'من وجهة نظر الفراشة'
محاولات لتفكيك بعض طلاسم الوجود

ينفتح ديوان "من وجهة نظر الفراشة" بعد التصدير على عالم الطفولة، بداية الإنسان قبل أن تئد المدن أحلامه، في قصيدة تستعيد الحلم الأبدي بالعيش خارج الحدود. فالطفولة ليست سوى الحياة خارج منطق الزمان والمكان. يقول الركابي عن الأطفال "يخزنون أمانيهم في قرص الشمس / ويلعبون بمشاعر الوقت في اللامكان"، ذلك أن تخزين الأماني يجعلها حية مشعة على الدوام .. ويلتقي الأطفال  في أحلامهم  مع الشعراء، هؤلاء الذين سيغيرون العالم، كما تفعل الفراشة: "جند النبوءة / مهندسو الحلم الإنساني المتلألئ" لأنهم "يضعون أنفسهم / من وجهة نظر الفراشات".

تشع القصائد في هذا الديوان بصورها ورموزها، تعكس تأملات الشاعر وخلاصة تجاربه مع الإنسان ومع الحياة. تجلو خيبات عديدة وانكسارات وأوجاعا  يولدها الطغاة والحاكمون "هم الأنبياء في الأرض / ومعضلة الإنسان / بلا كتاب ولا معجزة". تكشف مرآة عذاب الركابي نفاق الانتهازيين وظلم الطغاة والأعداء واللصوص والحكام، تهدم حصونهم وتفضح أكاذيبهم وتعيد تشكيل صورتهم المزيفة.

ذلك أن الحاكم في علاقته بالمحكوم ليس سوى "الفاعل والمبتدأ والخبر.. ونحن ممنوعون من الصرف / ولا محلّ لنا من الإعراب" .. هي خيبات لا يمكن إلا أن ترهق الشاعر والإنسان عموما وتغتال حلمه فـ"يتجرع سمّ صمته / وتستقيل الأمنيات / وتعتقل في الأعين الأحلام".

على أن "الفراشات" في هذا الديوان لن تنظر إلى أعداء الإنسانية فقط، ولن ترسم أوجاعها وأحزانها وتكشف عن أورامها فقط، بل نراها ترتاد عالما أجمل، تتأمل القيم الإنسانية الكونية، وتمجّد كل من يرعاها ويسقيها لتنمو .. فالطيبة والصداقة والعشق وحب الوطن هي في نظر الشاعر القيم التي ستعيد للإنسان إنسانيته وتؤسس لعالم أجمل "من وجهة نظر الفراشة". والوطنية هي في معجم الشاعر عطاء ومحبة، هي نقيض النرجسية والأنانية. أما الوطنيون فهم أولئك الذين "عافوا طائعين حدائق ذواتهم /إذ لا مكان فيها لأحد/غير الوطن/ سكن فيهم / أو سكنوا فيه ..لا فرق".

ولعل أجمل التعريفات في معجم هذا الكون الشعري ما ورد متصلا بالشعراء والروائيين والتشكيليين، حيث تبشر القصيدة بمعجزات الشاعر والروائي، هذا الفنان القادر على تغيير العالم باجتراح الكلمة (جناح الفراشة الضعيف) أو بهدير الحكاية وجموح الأشكال، تهدم الخرافة والزيف وتلوي عنق التاريخ لتصنع تاريخا جديدا.

إيقاع الفكرة وإشراقات الصورة:

تتعدد أنماط الإيقاع في القصيدة العربية الحديثة، بين إيقاع صوتي تولّده القافية أو اللازمة أو التكرار التركيبي -ويعتبر أكثر أنواع الإيقاع بساطة - وإيقاع السرد والحوار، وإيقاع البياض ... غير أن إيقاع الأفكار يعتبر الأكثر حضورا في قصيدة النثر "باستخدام موسيقى الفكر التي تعتمد على التوازن والترادف والتباين والتنظيم التصاعدي للأفكار، إلى جانب ترديد السطور والكلمات والأفكار في مجموعات متنوعة". (2)

وتروم  قصيدة النثر في ديوان "من وجهة نظر الفراشة" تحقيق جماليتها لا من خلال إيقاعها الصوتي وموسيقى اللغة فقط، بل عبر جعل القصيدة دفقا من الشحنات التصويرية والإضاءات الخاطفة القائمة على "إيقاع خفي يتشكل في النفس من خلال التأمل والاستغراق في عالم النص وأجوائه" (3)

الشاعر العراقي يبدو في ديوانه الجديد عاقدا العزم على إعادة تشكيل اللغة وتعريف الوجود في قصائد تتلون بألوان فراشاته

اللافت في ديوان الركابي هو إيقاع الأفكار في تقابلها وتكاملها وتناميها حتى مرحلة الذروة حيث تكون "فاكهة القصيدة"، وتغدو الصورة إشراقة مضيئة في دهاليز المعنى والدلالة، في رمزية مشعّة ولغة مشاغبة ...

ففي قصيدة "الرجال" مثلا تتواتر الجمل الاسمية قائمة على التقابل والتكامل بين معنيي النصر والهزيمة، القوة والضعف، راسمة صورا عديدة  للتناقض العميق في شخصية الرجال "نفوسهم صحراء متمدنة / عقولهم متاهة/ أنصار الله والشيطان في وقت واحد / جنودهم وهميون وقلاعهم مستباحة /انتصاراتهم بطعم الهزيمة" لتكون الذروة أنهم "في صراع  مصيريّ مع الأقدار".

وتتجاوز الصور في قصيدة "النساء" السائد من الوصف الحسي الظاهري للمرأة إلى ضرب من التحليل النفسي، غوصا في أعماقها، وتشريحا للذات الأنثوية في مغامرتها الوجودية ومعاركها مع الحياة. فالنساء هن ّ "هدير الوجود /قبّة الحب والشهوة الطاغية/ لامتلاك كل شيء/ما فوق الأرض /وما في السماء من شموس وأقمار".

وينبني إيقاع  قصيدة "النساء" على فكرة المغامرة وحلم السيطرة على الزمان والعالم، في صور تعكس التقابل بين القوة والجمال، بين لعبة الإغواء والنظرة الإلاهية. دلالات التقابل والتنافر تتنامى، يتخلق معها انسجام في الرؤية وتكامل في الصورة: "الماضي والحاضر والآتي / رهن إشارتهنّ / قبلتهن الشيء واللاشيء / كاهنات معبدهنّ الحياة ..".

يمكن القول إن إيقاع القصيدة في الديوان عموما هو إيقاع التنافر في الكلمات والأفكار وفي الرؤى والظلال، في شحنات من الهدوء والانفعال، من الرقة والقسوة، تجترح معها القصيدة موسيقى داخلية متصاعدة ونغمات متفاوتة القوة ..

وإذا كانت قصيدة الهايكو، كما يراها عذاب الركابي، تفلسف الطبيعة وتثير أسئلة الروح وتترجم حبا وتقديسا للطبيعة، فإن قصائده في ديوان "من وجهة نظر الفراشة" تراهن على الإنسان ليعيد بناء صلته بالعالم .. تسائله وترسم أعماقه، قبل أن تعيد  تعريفه.. ليكون بذلك الشعر تعريفا آخر للوجود .. تتمرد القصيدة على المعجم وعلى اللغة المتكلسة والإيقاعات الزائفة تبني إيقاعها الخاص، تستوحيه من أوجاع الإنسان، وتجربة الشاعر ورؤاه. ترمي المتلقي في متاهات الدهشة والسؤال .. هل هذا هو أنا فعلا؟ أين أضع نفسي في هذه المتاهة؟ مؤكدة أن القصيدة الحديثة "هي للقراءة التأملية الصامتة وليس للإنشاد".

الإحالات:

  1. عذاب الركابي: من وجهة نظر الفراشة، ناشرون وموزعون، ط1، 2024
  2. س.موريه: حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي الحديث، ترجمة سعد مصلوح، عالم الكتب، ط1، القاهرة 1969، ص 140
  3. محمد صابر عبيد: القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، اتحاد الكتّاب العرب (ب.د.اف) ص53.