هندسة المعنى وتمثلاته في مجموعة 'الغريب الذي نسي ظله'

هندسة المعنى الشعري عند اوس حسن تمر بعدة مراحل، وتتميم المعنى هو علامة أسلوبية فارقة في شعره حيث لا نجد شوائب سائبة او نهايات عالقة تركها دون أن يحكم هندامها ويصفف فكرتها الشعرية.
حسن أوس يؤثث المشهد الشعري ويهندس أبعاد الزمان والمكان
حسن أوس يراهن على التكوين الشعري عبر الصور المكثفة والمجازات العميقة
عملية هندسة المعنى الشعري تصل الى منتهاها وتشبه مرحلة وضع النقاط على الحروف

تمتاز الكتابة الشعرية عند الشاعر أوس حسن بعدة ميزات شعرية تشكل الخريطة الوراثية لجينات الشاعر الكتابية فالنص الشعري لديه هو نص مرسوم بدقة هندسية بارعة بحيث لا تجد شوائب سائبة او نهايات عالقة تركها الشاعر دون أن يحكم هندامها ويصفف فكرتها الشعرية.. ولنلاحظ دقة النهايات الشعرية في نصوص الشاعر سواء نهايات النصوص بشكلها الشمولي لمعنى نهاية نص أو بالمعنى التجزيئي الذي يعنى بضبط كل جملة شعرية والاهتمام الشديد بضبط حدود المعنى من خلال برزخ شعري مهمته ضبط معنى كل ملفوظ او خطاب فلا يبغي على معنى آخر أو حتى خاطرة كانت مرت بالجوار يوم سنحت القصيدة في سماء الشاعر.
ان هندسة المعنى الشعري عند اوس حسن تمر بثلاثة مراحل المرحلة الاولى هي مرحلة تأثيث المشهد الشعري اذ يجري في هذه المرحلة محاولة رسم ملامح المشهد المتعلقة بالزمان والمكان وسؤال الماذا وتبرز في هذه المرحلة عبقرية الشاعر في الافادة من امكانات السرد ليدشن نصه الشعري ببراعة الاستهلال الذي يأتي هنا من أجل تبديد مخاوف القارئ والاخذ بيده وهو يحاول الاسراء في ليل القصيدة البهيم.. في قصيدة أجراس الزمن البارد يبدأ أوس بتأثيث المشهد الشعري مهندساً أبعاد الزمان والمكان قائلاً :
على حافة الغروب
ومع أول شهقة للشتاء
وآخر ضحكة للطيور المهاجرة
اذكر أنهما التقيا أول مرة
عند نوافذ الغيم...
ان براعة المشهد الاستهلالي مشغولة بدقة واحترافية عالية لتعكس اهتمام الكاتب الشديد بضرورة ضبط جهاز الارسال الشعري بالوجهة الصحيحة من أجل تأمين البث الشعري وصولاً الى القارئ الذي لن يعاني والحالة هذه من انقطاع البث بين المرسل والمستقبل او حتى تشويشه.

كانت تلك رحلة ممتعة قادتني فيها نصوص أوس حسن لتمنح وعيي الذاتي فرصة للتأمل والارتقاء الى لحظة الوعي الموضوعي أو الجمعي..ولتنطلق من المحلي إلى العالمي ومن الخاص إلى المشترك الإنساني الكبير.

ولنلاحظ الاهتمام بتأشير الحالة الزمكانية في مشهد الاستهلال الذي يبدو انه عكس تأثر الكاتب بعالم الرواية مما يعني وجود تداخل مقصود للأجناس الأدبية باتجاه النص المفتوح.
أحياناً يمارس المشهد الاستهلالي وظيفة اخرى غير وظيفة تأثيث المعنى وضبط الإرسال، فأحيانا نجد أن أوساً يلجأ الى المشهد الاستهلالي ليمنح القارئ فرصة لالتقاط أنفاسه بعد الدفقة الاولى للمعنى تلك التي هاجمت وعي المتلقي مباشرة من اول طلائع الكلمات الأولى للاستهلال..لذلك يعمد أوس إلى أن يمنح القارئ فرصة للاستراحة واستيعاب ما الذي يجري على خشبة مسرح الوعي لينطلق به بعد ذلك إلى مرحلة التكوين ..يقول أوس في نص قطار النشيد:
لأن قمري مهجور في عتمة الصباحات الجبلية
وصوتي أبيض كغيم مكسور على النافذة
لأن لقلبي دموعاً رمادية الفصول
ولضحكتي غباراً حزيناً
سأخرج من رحم المتاهة عائدا ً إلى طفولتي
ان من حق القارئ على الشاعر هنا أن يحصل
ان من حق القارئ على الشاعر هنا أن يحصل على محطة استراحة ليقيم فيها مقدار تضخم الوعي من جراء هجوم شحنة المعنى الثقيلة عليه. .لذلك يمنحه أوس  استراحة لا تدوم فهي أشبه ما تكون استراحة محارب ليغذي القارئ خطاه محاولاً تتبع مسار الطائر الحلم.
في المرحلة الثانية يشتغل الشاعر على سؤال التكوين وهذه المرحلة تضطلع بالعمل الشعري الصعب وانثيالاته المهمة.. في نص "أجراس الزمن البارد" يتخضب سؤال التكوين الشعري بالصور المكثفة والمجازات العميقة ولكنها صور ومجازات اتخذت مكانتها في النص لتخدم وظيفة التعاضد في المعنى والتماسك النصي حيث لا مجانية مبتذلة في توزيع الاستعارات والمجازات على جسد القصيدة ولنستمع اليه مصورا مشهد الالتقاء:
 بقلب مبلل بالنعاس والمطر 
ودمعة تختصر أنين المسافات
كانت تسميه رجل الشمس
ويسميها أميرة الضباب
ان مجازات مثل رجل الشمس وأميرة الضباب وأنين المسافات وبلل القلب بالنعاس والمطر كلها جاءت متسقة لترسم صورة شعرية مكثفة لحالة الحزن المنبعثة من استحالة اللقاء الان.
وأخيرا تصل عملية هندسة المعنى الشعري الى منتهاها في مرحلة تتميم المعنى وهذه المرحلة مهمة جدا لأنها تشبه عمل الخبر بالنسبة للمبتدأ فهي مرحلة وضع النقاط على الحروف وهي ايضا مرحلة ضبط المعنى من أجل التأكد من وصول البث الشعري بشكل واضح لدى المتلقي من غير تشويش او ضبابية قد تحرف المعنى وتغير وجهته او رسالته الجمالية..
في نص "أغنية من جليد" مارست عملية تتميم المعنى الكلي للنص دورها لتضع نهاية حتمية لمشهد الابتداء ومن أجل أن لا يترك الشاعر نصه عرضة لانفتاح التأويلات على ما يحرف بوصلة المعنى نجد أن أوساً يخبرنا أن "بطله" الذي كان : يزرع النجوم على حدائق الشتاء..ويغني
يعلق صورة قاتله على الجدار..ويغني
نجده ظل حتى بعد موته يمارس فعل الغناء كفعل ثوري ملتزم يذكرنا بنموذج البطل الذي رسمته قصائد بابلو نيرودا ..ان تتميم المعنى هو علامة أسلوبية فارقة في شعر أوس حسن الذي يبدو انه حريص جدا على ايصال رسالته الشعرية الى المتلقي وعدم تركها لظروف الارسال وعوامله البيئية المحيطة التي قد تحرف بوصلة المعنى عن القصد الشعري للمؤلف..وفي ذلك انتصار للمعنى على أشباح وظلال التأويلات اللانهائية من جهة ولكنه ومن جهة أخرى سيجعل النص يدفع ضريبة حضور الايديولوجيا بشكل مباشر تلك الايديولوجيا التي يحاول الفنانون أن يتمثلوها بطريقة غير مباشرة على مبدأ نظرية الانعكاس التي قال بها جورج لوكاش في طورها الأكثر تحررا.
كانت تلك رحلة ممتعة قادتني فيها نصوص أوس حسن لتمنح وعيي الذاتي فرصة للتأمل والارتقاء الى لحظة الوعي الموضوعي أو الجمعي..ولتنطلق من المحلي إلى العالمي ومن الخاص إلى المشترك الإنساني الكبير.