هوامش حول العُرس التونسي

قدمت الانتخابات الرئاسية التونسية بجولتيها والبرلمانية دروسا متباينة أبرزها أنه لا حصانة لحزب أو حركة سياسية في تونس.

نجح الشعب التونسي في الحفاظ على تجربته السياسية، وانتخب في حرية تامة وباكتساح قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري الذي لم ينتم لحزب معين، لكن أيدته في الجولة الثانية أحزاب سياسية يمينية ويسارية مختلفة، والأهم أنه جاء مرفوعا على أكتاف نسبة كبيرة من الشباب في رسالة حمل عنوانها الرئيسي رفضا لجميع القوى التقليدية بعد فشلها طوال السنوات الماضية.

أوقف أستاذ القانون الدستوري حملته الانتخابية لأسباب تتعلق بحبس منافسه نبيل القروي، وعندما أفرج عنه خاض مناظرة إعلامية حسمت نسبة كبيرة في أصوات المترددين، ورفض الرجل تلقي مساعدات مادية من أي جهة رسمية أو غير رسمية، وأصر أن تعتمد حملته على مشاركات ملموسة من قبل شرائح متنوعة في المجتمع، مستفيدا من مساحة الفراغ التي تركتها الدولة، وسدها بتحركات وجدت ارتياحا من جانب فئات شبابية أرادت تغيير طبقة سياسية أخفقت في تلبية طموحات القطاع الأعظم من المواطنين.

ينطوي عبور تونس اختبار الانتخابات في مستوييها الرئاسي والبرلماني على إشارات تؤكد أن هذا البلد قطع شوطا إيجابيا في مسيرته الديمقراطية، ولن يتمكن أحد من فرملته، بدليل قبول المعارضين لنتائج الانتخابات وعزمهم تأييد الرئيس الجديد ومحاسبته بالأدوات السياسية، وهو ما يكبح كل سينايوهات غامضة لم يرتح أصحابها لفوز سعيد الذي أقسم أن يكون رئيسيا لجميع التونسيين.

بصرف النظر عن القراءات التي أكدت الميول الإسلامية للرئيس المنتخب، فالرجل لم يصدر عنه صراحة ما يثبت هذه الهواجس، وإذا افترضنا أن ذلك له جذور في خطابه العام، فالشعب الذي عاقبت شريحة كبيرة منه حركة النهضة الإخوانية كفيل بتصويب المسارات، ومن الصعوبة قبوله برئيس ينحاز لتيار معين أو يتحالف في الخفاء مع تنظيمات متطرفة أو يصمت على أي جماعة إرهابية.

تملك تونس خصوصية في التعامل مع تجربة سياسية لا يمكن القياس عليها في بلد آخر، لأنها وليدة ميراث تاريخي، وخرجت من رحم نضالات متعددة ساهمت فيها المرأة وقوى سياسية حية، وقد لا يستطيع شخص أو تيار تغيير قواعدها بسهولة، وربما العكس هو الصحيح، حيث أجبرت التطورات الكثير من الأحزاب على إدخال تعديلات في الممارسات بما يناسب المزاج الرافض لأي قيود تحد من الإنطلاقات السياسية.

قدمت الانتخابات الرئاسية بجولتيها والبرلمانية الأخيرة دروسا متباينة للمتابعين، أبرزها أنه لا حصانة لحزب أو حركة سياسية في تونس، والكل من الضروري معاقبته ومكافأته على تصرفاته، كما أن الديمقراطية قابلة للحياة في أي بلد في العالم، طالما توافرت لها الرعاية المناسبة، وجرى التصويب سريعا، وتجنب الوقوع في الأخطاء التقليدية، وعدم الاعتراض على أصول اللعبة مهما بلغت سخونتها.

وهنأ نبيل القروي المرشح الخاسر منافسه الفائز قيس سعيد، وأضفى قيمة معنوية على التجربة، وثمنها الكثير من النخب والمواطنين الذين لم يرتاحوا لهذا وذاك، وامتنعوا عن الاقتراع أو صوتوا وتركوا أوراقهم بيضاء، لكنهم لم يعترضوا على فوز سعيد كرئيس جاء بإرادة شعبية تبلغ نحو 73 بالمئة من مجموع الأصوات الصحيحة في الانتخابات.

رأت دوائر سياسية غربية أهمية كبيرة في هذه الانتخابات، من زاوية نجاح الإرادة الشعبية في فرض كلمتها. وقدمت للباحثين عن تجربة رائدة في المنطقة هدية غالية، بعد تجربة السودان مؤخرا عندما صمم شعبه على تشكيل حكومة مدنية. أملا في أن يصبح السودان وتونس نموذجان يمكن القياس عليهما لاحقا في الرشادة السياسية.

إذا كان نموذج السودان لم تكتمل ملامحه النهائية بعد، وبحاجة إلى نحو ثلاثة أعوام للحكم على تجربة السلطة الانتقالية المختلطة من المدنيين والعسكريين، فإن المولود التونسي ظهرت معالمه وشب عن الطوق، ويمكن الحديث عن نجاحاته واخفاقاته، وتقف خلفه سنوات من الصعود والهبوط، والتقدم والتعثر، وأصبح يلفت الأنظار، وربما يتحول إلى عبء على دول الجوار التي تتوق إلى اقتباس تجربته دفعة واحدة، والتغافل عن خطوات سياسية متدرجة نضجت ووجدت من يدافعون عنها، ولم تتحول إلى عبء ثقيل بالنسبة للحكام والمحكومين.

 تبدو مسألة العبء حمالة أوجه، لأن اتمام عملية الانتخابات بنجاح يمثل نصف الثمرة، بينما يعد تشكيل الحكومة بناء على نتائج لم تعط حزبا أو تيارا واحدا أغلبية مطلقة وقدرة رئيس لم يعتمد على حزب أو ظهير شعبي منظم، هو النصف الثاني من الثمرة. وهما مشكلتان دقيقتان يعكس التجاوز أو التعثر فيهما أو أحدهما الكثير من المعاني.

يقف التونسيون الآن أمام رئيس يملك صلاحيات خطيرة، وتجربة سياسية فقيرة، وربما تكون الأخيرة من مزايا قيس سعيد، فالمجهول يتحول أحيانا إلى مرغوب في ظل قيادات حزبية ناصعة لم تستطع تعويم نفسها في سوق ناخبين تعامل بقسوة مع غالبيتهم، وعاقب بعضهم على أخطاء لم يرتكبوها مباشرة، ومصمم على الدفاع عن خياراته. الأمر الذي يجبر الرئيس الجديد على خلع كل عباءة سياسية قد يكون تستر خلفها أو حاول البعض وضعه تحتها، لأن غالبية من انتخبوه توسموا فيه خيرا لعدم انحيازه لأي حزب إسلامي.

يقف التونسيون أيضا في مواجهة حقيقة الموزاييك السياسي الذي يتشكل منه البرلمان ويضغط عليه، ويضاعف من صعوبة تكوين ائتلاف سلس يؤدي إلى حكومة وفاقية. وإذا جمعت حركة النهضة الإخوانية مقاعدها، مع مقاعد ائتلاف الكرامة وحزب الرحمة، وهما من أصحاب التوجهات الإسلامية، لن تتمكن من الحصول على أغلبية تمكنها من احتلال كرسي الحكومة والقبض على الجسم القوي في السلطة التنفيذية.

تزداد ملامح التحدي مع إعلان غالبية الأحزاب، وفي مقدمتها حزب قلب تونس الذي يقوده نبيل القروي ورفض التحالف مع النهضة. وقد تتبدل مواقف بعض القوى بعد انتهاء عرس الانتخابات الرئاسية، لكن أي حكومة تشارك فيها حركة النهضة سوف تواجه أزمات عميقة، لأن مرارات الماضي لم تترك للتيار الإسلامي مساحة للمناورة والقفز على الأشواك. وهو ما يضع التجربة التونسية على المحك لتثبت أنها تستحق حمل لواء الريادة في المنطقة أم لا.