هيثم الزبيدي كلماتي صغيرة أمام كبر عالمك

كان يقول لي كلما كانت الأمور المالية تسوء "لن أتوقف. أنا مسؤول عن إعالة أكثر من مئة عائلة يا صديقي. صحيح أن الصحافة رسالتي غير أن الكرامة الإنسانية هي هدفي الأسمى".

لا تصلح الكلمات دائما وسيلة للوصف. فالألم الناتج عن الفقدان الذي كلما حدث لا يتكرر من جهة نوعه لا يمكن أن تكون الكلمات وفية في تجسيده والتعبير عنه ونقل حمولته. ذلك ما أشعر به وأنا أحاول ألا أقع في فخ الرثاء كما لو أنني لا أرغب إلا أن أفكر في أن صديقي وأخي وزميلي ومديري ومثلي الأعلى في النزاهة والصدق والكرم ونبل الأخلاق والمروءة والشهامة الدكتور هيثم الزبيدي لن يغيب طويلا وأنه أخذ استراحة مؤقتة من الألم حين قرر تحييده من خلال نسيانه وعدم التماهي معه فأغمض عينيه ليعطي جسده فرصة للراحة. مناسبة يقتنع الألم من خلالها بأن يقلل من هجماته أو يكف عنها. كان الزبيدي أريحيا حتى مع الألم. فمنذ أن عرفته كان يصنع مكائده لكي يبقي الألم محاطا بمقاومته وكان يعلي من ألم الآخرين محبة ويتفاوض مع ألمه كما لو أنه يضع نفسه في خدمته لكي يكون رؤوفا به من غير ضجيج.

عام 2012 وهو يعيد إصدار جريدة 'العرب' اتصل بي من لندن وكنت مقيما في السويد وطلب مني الكتابة الدائمة فيها. تلك واقعة ذهبية. لم يحدث لي إلا فيما ندر أن اتصل بي رئيس تحرير مطبوعة ليعبر عن إعجابه بما أكتب طالبا مني الانضمام إلى كادر كتابها الدائمين. سعدت يومها. قلت له "لن أكتب في السياسة،" ضحك وقال "موافق. ولكن صدقني السياسة لا تُخيف دائما." صدقته لأنني اكتشفت عمق صدقه فيما يكتب وحرصه على أن يكون نزيها في كل ما يقول ويكتب إضافة إلى ثقته بالكلمة كونها عنصر تغيير. كانت الصحافة مهنته الوحيدة على الرغم من أنه درس أكاديميا الهندسة النووية. بعد سنوات قال لي "ما رأيك في أن تكتب عمودا أسبوعيا للصفحة الأخيرة؟" ضحكت وقلت له "لست خفيف الظل. كل ما أفعله أنني أكدح بقوة في أن أقلل من كثافة الحزن في كتاباتي،" ضحك هو الآخر وقال "وهل ترى أنني أجيد إضحاك الآخرين." بعد زمن من كتابة ذلك العمود شعرت بأن الزبيدي وهبني فرصة لا تعوض للخروج من عالمي الكئيب. لقد صرت أغني مرحا وأنا أفكر بنعمة الكتابة المختلفة. ما فعله رئيس التحرير الوحيد الذي عرف كيف يضع موهبتي في الكتابة في خدمة الصحافة فعله مع العشرات.

سافرت معه غير مرة إلى تونس وأبوظبي. كانت لديه اجتماعات هناك فيما كنت مجرد مسافر يمكنه أن يقضي وقته في التجوال. في كل مساء حين نلتقي يقول لي "مقالاتك تجعلني من أشد المغرمين بالأماكن التي تزورها" ولهذا زرنا معا لوفر أبوظبي والحمامات في تونس وكان يود أن يتبعني إلى السوق الصينية في دبي ومعصرات الزيتون في أريانة بتونس لولا ضيق وقته وشعوره بالمسؤولية. كان يقول لي كلما كانت الأمور المالية تسوء "لن أتوقف. أنا مسؤول عن إعالة أكثر من مئة عائلة يا صديقي. صحيح أن الصحافة رسالتي غير أن الكرامة الإنسانية هي هدفي الأسمى." لا أنسى يوم سافرنا معا أول مرة أنني رأيته ينتظرني خارج طابور المسافرين. قال لي "انتظرتك لكي نجلس في مقعدين متجاورين. فرصة لكي أسمعك بعيدا عن العمل،" قلت له ضاحكا "ولكنك في كل مساء حين ننهي العمل في الصحيفة تأخذنا إلى مكان يقع في الرصيف المقابل لكي نقضي معا وقتا ممتعا في الحديث،" قال "ذلك جزء من واجبي مسؤولا. ولكننا الآن أصدقاء."

كلما كتب مقالا سياسيا يعجبني كنت أكتب إليه عن طريق الواتساب معبرا عن إعجابي بذلك المقال. كان يرد علي بتواضع مدهش "شرا لأن المقال أعجبك." الحقيقة التي لم يكن يعرفها صديقي أنني كنت معجبا بكل ما يكتب. فهو واحد من أهم كتاب الصحافة الذين أنا حريص على قراءة ما يكتبون. لا أبالغ إذا قلت إن في إمكان أسلوبه في الكتابة السياسية والصحفية أن يضعه إلى جانب كبار كتاب السياسة العرب. فالزبيدي كان كاتبا سياسيا غير أنه لم يصب بأمراض الكتابة السياسية. كان حرا ومستقلا ومنصفا ونزيها وعروبيا بشفافية من غير أثقال عقائدية وناقدا بحرص من يبني وعميقا في إيجابيته. قال لي ذات مرة "وضع جبرا إبراهيم جبرا كلمتك عنه في الغلاف الأخير من كتابه شارع الأميرات" فأخبرته بأن جبرا أوصاني بأن أكون نزيها في كل ما أكتب. قال لي "ليتنا نكون بحجم تلك الوصية".

لا أرغب في رثائه بقدر ما أرغب في أن أشكره. بالنسبة إلي وإلى الكثيرين ممَن عملوا معه سيظل حاضرا. هيثم الزبيدي الذي لم ينصبه أحد رئيسا للتحرير كان صاحب مشروع خلاق برؤيا مغايرة. هو ابن الصحافة غير أنه حرص عبر عمله الصحفي على أن يكون وفيا لأخلاق المهنة متمردا على ألاعيبها فقد كان يقيم خارج ممراتها الضيقة. لذلك يمكنني أن أقول له “ألمُ فقدانك لا يوصف. كلماتي صغيرة أمام كبر عالمك.”