هيثم بن طارق بين الداخل والخارج

يبدو عهد السلطان هيثم عهدا واعدا على الصعيد الداخلي مع سؤال في غاية البساطة: هل ستكون هناك تغييرات في مجال السياسة والدور الاقليمي؟

القى سلطان عُمان الجديد هيثم بن طارق خطابا تأسيسيا في ذكرى أربعين السلطان قابوس الذي توفّى قي العاشر من كانون الثاني – يناير الماضي. انّ دلّ الخطاب على شيء، فهو يدلّ على وجود شخص يقف على رأس السلطة في عُمان يعرف تماما ما المطلوب داخليا من اجل متابعة مسيرة سلفه التي بدأت قبل خمسين عاما. لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبه السلطان قابوس في نقل سلطنة عُمان الى مكان آخر. من بلد متخلّف منغلق على نفسه في عهد والده، السلطان سعيد بن تيمور، الى بلد منفتح على العالم يمتلك دار اوبرا ومدارس وجامعات وبنية تحتيّة متطورة، تحاول السلطة فيه، بتوجيه من قابوس نفسه، تهذيب ذوق المواطن من الجنسين بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك تعويده على تقدير اهمّية الموسيقى الكلاسيكية.

صحيح ان الخطاب تطرّق غير مرّة الى الدور الذي لعبه قابوس في بناء بلد حديث، وذلك ابتداء من العام 1970، الّا ان الصحيح أيضا ان هيثم بن طارق لم يتجاهل وجود تحدّيات تواجه السلطنة داخليا ان على صعيد بناء الانسان او على صعيد التعليم او على صعيد الارتباط بكلّ مجالات التقدّم العلمي في هذا العالم، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي.

كان لافتا في الخطاب التركيز على الداخل. مقطع صغير، غلبت عليه العموميات اكثر من ايّ شيء آخر، تحدّث عن السياسة الخارجية للسلطنة التي عرفت دائما كيف تميّز نفسها، خصوصا بسبب قربها الجغرافي من ايران من جهة وتقاسمها معها التحكّم بمضيق هرمز الاستراتيجي من جهة أخرى.

اكتفى سلطان عُمان الجديد بالقول: "لقد عرف العالم عمان عبر تاريخها العريق والمشرّف، کیانا حضاريا فاعلا ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغاياتٍ سامية، تبني ولا تهدم، وتقرّب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره، معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية". انّه مقطع صغير يقول الكثير بسبب الكلام العام الوارد فيه عن رغبة عُمان في الابتعاد عن أي مشاكل ولعب دور المصلح والوسيط. هل يعني ذلك ان عُمان في عهد هيثم بن طارق في صدد بلورة سياسة خارجية قد تختلف، ولو قليلا، مع سياستها التقليدية التي جعلت منها دولة تسير وفق نهج خاص بها... ام انّ عُمان متمسكة بالاعتبارات التي جعلتها في أحيان كثيرة تتبع سياسة خاصة بها في اطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية او في اطار السياسة الخاصة بايران... او في الاطار العربي. على سبيل المثال وليس الحصر، كان لسلطنة عُمان موقف خاص بها من رحلة أنور السادات التاريخية الى القدس في العام 1977 ومن توقيع اتفاقي كامب ديفيد في خريف 1978 ومن معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في آذار – مارس من العام 1979... ومن مقاطعة العرب لمصر في تلك المرحلة.

تكمن اهمّية الخطاب في ان الرجل الذي كلّفه السلطان قابوس وضع رؤية 2040، يعرف تماما ان هناك إدارة عُمانية ترهلت في السنوات الثلاثين الأخيرة. جاء الترهّل على الصعيد الداخلي في ظلّ دور نشط على الصعيد الخارجي. هناك حتّى انفتاح عُماني لا سابق له على إسرائيل. توّج هذا الانفتاح بزيارة بنيامين نتانياهو لمسقط في العام 2018. كشفت هذه الزيارة قدرة عُمان على استقبال نتانياهو وان تسبق اسمه عبارة "دولة الرئيس" من دون صدور أي ردّ فعل عن ايران او عن ادواتها مثل "حزب الله"...

من الواضح انّ هيثم بن طارق رجل واقعي. إضافة الى ذلك، يعرف العالم الخارجي جيّدا. يعرف معنى العلم والثقافة واهمّيتهما. لذلك اختاره السلطان قابوس خليفة له كي يتابع المسيرة وان كان ذلك على طريقته.

ما لا بدّ من تذكّره هذه الايّام ان السلطان قابوس نقل الى السلطنة التجارب الحضارية التي لمسها لمس اليد، خصوصا لدى تلقيه دراسته في بريطانيا التي كان ينتقل اليها بالباخرة عن طريق ميناء عدن. لدى هيثم بن طارق خبرته أيضا في هذا المجال. انّه يعرف انّ أجهزة الدولة لم تعد كما كانت عليه في الماضي وان الدور الخارجي لسلطنة عُمان، بما في ذلك دورها الفريد من نوعه في اليمن الذي يشمل إقامة علاقة خاصة مع الحوثيين، لا يعوّض عن التراجع في الداخل، خصوصا على الصعيد الاقتصادي. وضع السلطان قابوس في السنوات العشرين الاولى من حكمه الأسس لدولة وإدارة حديثتين. في السنوات الثلاثين الأخيرة كان هناك إصرار على السير حسب هذه الأسس التي صارت في حاجة الى تحديث والى رجال جددّ يمتلكون روحا ديناميكية وقدرة على اخذ المبادرة. هناك عالم تغيّر ولم يعد في الإمكان البقاء في اسر مفاهيم الماضي التي كانت تصلح لسبعينات القرن الماضي وثمانيناته.

ما يعطي فكرة عن السلطان الجديد قوله في خطابه انّه "من أجل توفير الأسباب الداعمة لتحقيق أهدافنا المستقبلية فإننا عازمون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات العمل وإعلاء قيمه ومبادئه وتبني أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة (...)".

لا يمكن الاستخفاف بفكرة "إعادة هيكلة الجهاز الاداري للدولة". ان يشير سلطان عمان الى ذلك والى "قيم العمل" يؤكّد وجود رغبة في الاستفادة الى ابعد حدود من كلّ ما تحقّق في عهد قابوس والعمل في الوقت ذاته على تطويره. فالامر الذي لا شكّ فيه انّ سلطنة عُمان لم تستطع في السنوات الأخيرة اللحاق بركب التقدّم على صعيد الاقتصاد وتوفير الخدمات في المنطقة. لم تستطع ذلك على الرغم من امتلاكها كلّ ما يمكن ان يكرّس دورها الطليعي الذي صنعه السلطان قابوس.

هناك عهد جديد في سلطنة عُمان. عهد رسم ملامحه السلطان الراحل باني الدولة الحديثة في ظروف كانت في البداية في غاية الصعوبة استطاع التغلب عليها. من هذا المنطلق، يبدو عهد هيثم بن طارق عهدا واعدا على الصعيد الداخلي مع سؤال في غاية البساطة: هل ستكون هناك تغييرات في مجال السياسة التي تحتاج هي الأخرى الى إعادة نظر في جوانب معيّنة من منطلق ان الدور الاقليمي مهمّ ولكن لا وجود لدور من اجل الدور ومن دون تحديد للهدف من هذا الدور.