هيرفي كيمف يرى أن الرأسمالية تحرق الجميع

اقتصاد السوق لم يولد من فراغ فلسفي، بل لقد سبقه توجهات فلسفية تركز على الأفراد وتلغي هيمنة المؤسسات، كالكنيسة والحكومة والأعراف الاجتماعية.
الكاتب يرى تقليل ثروة أغنى الأغنياء حيث يوجد على الأرض 10 ملايين مليونير ويجب الأخذ من ثرواتهم
الولايات المتحدة كانت هي الرائدة في السباق غير المنضبط

"الرأسمالية تحرق الجميع" عنوان كتاب لهيرفي كيمف صدر في عام 2013 وقام بترجمته أنور مغيث، استعرض كيمف في الفصل الأول سرعة الاختراعات منذ بداية الثورة الصناعية إلى الثورة الرقمية التي جعلت الإنتاج يتضاعف مئات المرات بفضل الميكروبروسسر الذي حول الإنتاج من ميكانيكي إلى إلكتروني، وبالطبع فإن تضاعف الإنتاج بهذه الصورة المفرطة كان له ثمن باهظ على البيئة والإنسان حيث أدى التطور الرقمي إلى مضاعفة الإنتاج والاستغناء عن الأيدي العاملة بفضل الآلات التي حلت محل الانسان، كما شهد العالم تطورا في إنتاج المواشي بفضل الهرمونات والتلقيح الصناعي بحيث تضاعف الإنتاج الحيواني. 
وكانت الولايات المتحدة هي الرائدة في هذا السباق غير المنضبط، ومع تحرير أسواق المال، كثرت المضاربات في البورصات وتضاعفت الأموال دون أن يكون لها سند حقيقي من الإنتاج بما يشبه القمار، وعندما حلت الأوراق المالية كالأسهم والسندات، أصبح المال ورقيا دون أن يكون له سند من الذهب، وهذا ما أطلق عليه مصطلح "التوريق" وهو الذي تسبب في الأزمة المالية العالمية في عام 2007 حتى 2010، حيث ازدادت الديون وبيع الديون مع فوائدها، مما أدى الى وجود أرقام فلكية من الديون دون أن يكون هناك سيولة مالية في البنوك، فانهارت البنوك ونظرا لتشابك الاقتصاد العالمي في ظل العولمة، فقد أصابت الأزمة المالية جميع دول العالم. ورغم أن مورتن وشلز منحا جائزة نوبل على فكرة الاستثمار بالمشتقات المالية كالسندات والأسهم إلا أن هذه النظرية أدت الى الإفلاس، حيث ارتفعت الأرباح إلى مستويات فلكية وأفلست البنوك. 
زادت الرأسمالية قوة وضعفت الأخلاق، ومع انتشار التجارة الحرة العولمة وحرية حركة الأشخاص والأموال والتحويل الإلكتروني، انتشر الاختلاس وغسل الأموال، وبثوان قليلة تنتقل مبالغ ضخمة من دولة هناك إلى دولة بعيدة هناك، وعليه، فقد انتشرت الجريمة العابرة للحدود، والاتجار بالبشر والدعارة، فالفقراء لم يجدوا لهم مكانا في العالم الذي لا يرحم، وباتوا مستعدين للعمل كخدم وبائعات هوى ونجوم أفلام إباحية تدر المليارات على أصحاب رؤوس الأموال. وبسبب هذا النظام، برزت ظاهرة العائلات الثرية التي تشتري الشركات الرابحة فتتضاعف ثروتها ألف مرة خلال عام أو عامين. وهذه العولمة ساعدت على انتشار ثقافة الاستهلاك لدى جميع سكان الأرض والتنافس على إشباع هذا الاستهلاك، قد برعت الصين في تقليد المنتجات الغربية وإغراق الأسواق بالمنتجات الرخيصة. 

الكاتب يعترف بصعوبة تطبيق المقترحات بسبب الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي ولن يقتنع هؤلاء بالتخلي عن جشعهم

لقد أثر هذا التطور على البيئة بشكل سلبي، ويعطي الكاتب العديد من الأمثلة على الضرر الذي أصاب مناطق العالم كنضوب الثروة السمكية في ناميبيا، واختفاء السلاحف وسمك التونا التي تفترس قنديل البحر بسبب تفريغ مياه المجاري في البحار. وانخفاض عدد سمك الباكالاة على الساحل الأطلنطي لكندا، أما التغير الذي لحق بجيولوجيا الأرض فهو ظاهرة جديدة أطلق عليها العلماء حقبة الأنثربوسين وهي التي تشير إلى ترسبات كثيرة على سطح الأرض نتيجة الصناعة، وتغير في المجال الجوي وارتفاع نسبة الحموضة في البحار والمحيطات. 
في الفصل الثاني يقول الكاتب إن اقتصاد السوق هيمن على المفاهيم العامة إلى انتشار الفردية، فبدلا من نظرية دوركايم عن المجتمع الذي ينتمي أفراده إلى مؤسسات اجتماعية يقوم فيها الفرد بوظيفته ويتكامل الأفراد لمصلحة المجتمع، حلت نظرية الفردية والتي يقوم عليها اقتصاد السوق، فاقتصاد السوق لم يولد من فراغ فلسفي، بل لقد سبقه توجهات فلسفية تركز على الأفراد وتلغي هيمنة المؤسسات، كالكنيسة والحكومة والأعراف الاجتماعية، فهي تنظر إلى الحياة على أنها سباق وتنافس ولا مكان للضعيف، حسب نظرية داروين القائلة بأن "البقاء للأصلح"، وبناء على ذلك، ظهرت السيارات وسيطرت على المواصلات بدلا من القطارات والباصات والفلل البعيدة المسيجة، وكأن الناس لا يريدون أن يروا بعضهم البعض، ومع انتشار الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي لم يعد الناس يلتقون ببعضهم البعض، وانخفضت روح التضامن بين العمال، وضعف دور النقابات ولا أحد يدافع عن حقوق العمال، وكل عامل حريص على لقمة عيشه، حتى وإن كان هناك استغلال. 
إذن فالثقافة العمالية اختفت، وإزاء البطالة المستشرية، فإن العامل يرضخ ولا يهمه قانون العمل والعمال، فهو يريد أن يعيش، لا أن يحفظ مثاليات ويطبقها في هذا العالم الذي لا يرحم، وهو يقبل بأجر ضعيف واستغلال جنسي وتكليف بأعمال ليست من مهامه. 
كما انعكس تيار الفردية على الأسرة أي أن الأسرة لم يعد لها قيمة، فانتشر الطلاق والجريمة والانحراف وتعاطي المخدرات، والشراهة في الاستهلاك، وبدلا من الهيمنة بالقوة لتسويق المنتجات، اتجهت الدول الصناعية إلى تغيير الثقافة والوعي الجماهيري، فامتلأت البرامج التلفزيونية بالإعلانات المبهرة لكي تسحر المستهلك فيشتري، وتركز الإعلانات على أكثر ما يهم المستهلك، كالنجاح والجمال والثروة، بل لقد أصبح الإنسان نفسه سلعة. وهناك رجال أعمال يشتغلون بتجارة الجنس بالنساء والأطفال وحتى الرجال، وهناك بلاد تعتمد على تجارة الجنس إلى حد بعيد في جنوب شرق آسيا مثل تايلند وأندونيسيا والفلبين، ولديها شركات مرخصة وتدفع ضرائب ترفد خزينة الدولة. 
ولا يقتصر الإتجار بالبشر على الجنس بل لقد تعداه إلى عمالة الأطفال نتيجة للفقر المدقع وهذا أيضا منتشر في جنوب شرق آسيا، ومن الظواهر الجديدة أيضا بيع الأعضاء، فالفقير لا يجد بدا من بيع جزء من جسمه لكي يعيش، كما ظهرت ظاهرة تأجير الأرحام، حيث تقبل امرأة غريبة بالحمل لزوجين عقيمين مقابل المال. كما ازدهرت الأفلام الإباحية بجميع أنواعها للأطفال والنساء والرجال والحيوانات. 
لقد امتلأ العالم الحديث بالاغتراب، فكل شيء أصبح قابلا للبيع، ولم يعد السوق ذاك المكان الذي يحبه الناس ويتجولون فيه في شوارع وبين مبان متفرقة، بل لقد أصبح مكانا واحدا ضخما اطلقوا عليه اسم "مول" يذهب إليه الناس للتسوق فقط، وكل شيء فيه إلكتروني ومراقب بأجهزة ويشتري المستهلكون ثم يجلسون في أحد المطاعم فيه نباتات صناعية والمكان مليء بالضجيج ويلتهمون طعاما باهظ الثمن، وغابت اللمسة الإنسانية من الحياة. 
وضع كيمف عنوان "سراب التنمية الخضراء" للفصل الثالث وفيه يستطرد ليوضح أن حلم استخدام الطاقة النظيفة ليس قابلا للتحقيق، ففي حين يكثر الحديث عن استغلال الطاقة النووية، لا توجد حلول لدفن المخلفات النووية التي تشكل خطرا شديدا على صحة البشر، كما أن انتشار المراوح التي صنعت لاستغلال طاقة الرياح لا تنتج سوى جزء بسيط من حاجات المدن وهي مكلفة جدا، وبينما تقوم بعض الشركات ببناء محطات لتوليد الطاقة النظيفة، هناك شركات أخرى تقوم على بناء مولدات نووية لأنها أكثر فاعلية وتنتج مئات أضعاف الطاقة التي تولدها الرياح.

Economie
الرأسمالية قوية جدا ولكن مصيرها الى إلزوال

ومن جانب آخر، يشير الكاتب إلى ما حل بغابات أندونيسيا التي قطعتها شركات أجنبية لإقامة مصانعها، والتي يتذكرها السكان الأصليون بحنين بالغ، ولا يقف الأمر عند ذلك، بل أن هذه الشركات تصدر انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بكميات هائلة، وكل هذا الخراب الذي لحق بالبيئة ناجم عن جشع التجار وبتواطأ من حكوماتهم التي حرمت السكان من غذائهم وأرضهم لجني الأرباح. ثم يشير الكاتب إلى حقل سلبينر في النرويج لاستخراج الغاز الذي يخفض الانبعاثات الكربونية إلى داخل الأرض، ولكن ليس هناك سبب للتفاؤل، حيث إن الانبعاثات تساوي 900000 طن من ثاني أكسيد الكربون تنبعث إلى الغلاف الجوي، وذلك لأن دفن كل كمية ثاني أكسيد الكربون الناجمة عن ذلك استخراج الغاز في حقل سليبنر مكلف جدا وبالتالي تصبح عملية استخراج الغاز غير مجدية اقتصاديا. 
ثم يقدم المؤلف مثالا آخر من كندا وهي منطقة البرتا التي تستخرج النفط وترمي المخلفات في الغابات المحاذية لها وبالتدريج توسعت الشركة وقطعت الأشجار، ولكن بعد سنوات اكتشف أن نسبة السرطان في تلك المنطقة في تزايد مستمر نتيجة للتلوث البيئي ورمي المخلفات في نهر أثاباسكا. 
وعليه، يستنتج الكاتب أن الوقود النووي ليس هو الحل وأن استخدام الوقود النباتي ليس حلا أفضل وسوف يظل النفط والفحم المصدر الرئيسي لتشغيل المصانع، مما يعني المزيد من الانبعاثات الكربونية، وهذا يعني المزيد من الاحتباس الحراري والمزيد من الجفاف والفيضانات ويخلص الكاتب إلى أننا اذا لم نخرج من الرأسمالية، فسوف يدمر كوكب الأرض وتفنى الحياة. 
في الفصل الرابع، يرى الكاتب أن الرأسمالية قوية جدا ولكن مصيرها الى إلزوال، فالعالم لم يعد قادرا على تحمل سلبياتها، وهو يرى الحل من خلال "الاقتصاد الاجتماعي والتضامني"، وتتكون الجمعيات من عدد من المساهمين المحليين ولا يهدفون إلى الإنتاج الضخم والتصدير ولكن إلى التكامل فيما بينهم. ويقول الكاتب إن هذا النظام انتشر في الولايات المتحدة في عام 1980 وفي أوروبا وشملت مجالات متنوعة من الإنتاج، ورغم نجاح هذه المبادرة إلا أن تطبيقها وتعميمها على الناس يوجب الخروج من الفكر الرأسمالي وإلغاء فكر الوصول إلى الحد الأقصى من الأرباح، أي تغيير في فكر الإنسان ونظرته للحياة من التنافس إلى التعاون، وتغيير مؤشرات النجاح من الدخل القومي إلى الحفاظ على الملكيات العامة وأهمها البيئة والمناخ وروح التعاون والتفاعل الاجتماعي الصحي. 
كما يطرح الكاتب وسائل أخرى منها ما اقترحته الأمم المتحدة في عام 1995 وهو تقليل ثروة أغنى الأغنياء حيث يوجد على الأرض 10 ملايين مليونير ويجب الأخذ من ثرواتهم، كما أن تقليل الاستهلاك يحد من تقليل الإنتاج، وبالتالي يقلل من الانبعاثات التي تهدد المناخ وغير ذلك من الاقتراحات. وباختصار فهو يرى أن الأمل يكمن في الزراعة وليس في الصناعة، فالزراعة تعيد إلى الأرض عافيتها وتنقي الغلاف الجوي بينما الصناعة تلحق ضررا بالغا بالأرض. 
لكن الكاتب يعترف بصعوبة تطبيق مثل هذه المقترحات بسبب الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي ولن يقتنع هؤلاء بالتخلي عن جشعهم، ويختم بالتساؤل: هل يمكن تأسيس النظام التعاوني دون الاصطدام مع الحكومات المستفيدة من النظام الرأسمالي؟