وتنطفئُ القصيدةُ الثوريّةُ بترجّلِ النوّابِ عن صهوته

كان الأجدر بالأنظمة العربية ان تحتفل برحيل مظفر النواب بانقراض آخر الأصوات المُزمجرةِ عليهم منذ عقود، وانمحاق بدر القصيدة المُجلجلة بقنابل المولوتوف والرصاص المُداف بعَرق الثُوّار المُشرَّدين من بلدٍ لآخر.

في رحيل مظفر النواب، كان الأجدر بأنظمة الحكم العربية، أن تعلن يوم رحيله، يومًا يحتفلون فيه على طريقتهم الخاصة، بانقراض آخر الأصوات المُزمجرةِ عليهم منذ عقود، وانمحاق بدر القصيدة المُجلجلة بقنابل المولوتوف والرصاص المُداف بعَرق الثُوّار المُشرَّدين من بلدٍ لآخر، الذين آمنوا أن البلادَ العربيةَ فِردوسهم المنشود، فكان لهم أن يُضحّوا بكلِّ غالٍ ونفيس لأجل تحريرها من براثن الظالمين سواءً أكانوا صهاينةً أم عربًا مُتصهينين، فلماذا اختاروا موقف المُؤبِّن المُتباكي على رحيل آخر عمالقة الحرف..؟!! نعم، لعل الجواب يأتي هيِّنًا أنّ شعر النوّاب المتفجِّر، قد انطفأتْ نيرانهُ بانطفاء رُموز تلك الأنظمة التي رحلتْ، فرحلَ معها ذلك الشعرُ وانطوى إلى غير رجعة، فهم - بهذا التخريج البائس- غير مشمولين بسخط الشاعر، فما عليهم إلا أنْ يستغلّوا الحدثَ؛ لكسبِ مودّة الناس لهم، ويُترجِموا تفاعلهم مع الأحداث الآنية التي يتفاعل الشارع معها بإيجابيةٍ، الأمر الذي يكشف بوضوح، أنّ كل أنظمة العالم مهما كانت السلطةُ قويةً في يدها، لكنها تخشى الشعوب وإن كانت عزلاءَ من السلاح..! ما يجعلها تتظاهرُ باهتمامها بكل شخص/ أو حدث/ أو مناسبة لها رأسمالها الرمزي الثريّ بالتماسك الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع.

ولكن أنّى لهم أنْ تنطلي مثلُ هذه الإجابةِ الخادعةِ لشعوبٍ لم ترَ في حاكميها اليوم سوى نُسخةٍ مُكرَّرةٍ من العَمالةِ والتطبيعِ والمهادنةِ لأنظمة الإمبريالية العالمية، وأنَّها بانشغالها عن الشعوب، بترتيب مصالحها الخاصة، لم تضع نفسها إلا في الخانة التي صبّ عليها النوّاب شواظَ قصائده الحارقة، فكان لها النصيبُ الأوفى من اللعائن المُصاغةِ شعرًا يُردّده الاحرارُ في كل مكان في العالم العربي.

يصح جدًّا، بعد هذه المقدمة، أن نصف الراحل مظفر النواب، بـ"الشاعر الكوزموبولوتي" أو الشاعر الكوني، ذلك الذي لا يتحدّدُ بآيديولوجية معيّنةٍ يبقى رهينَ مداراتها الفكريّة، ويبقى مؤمنًا بها طيلة حياته مؤمنًا بطروحاتها، ولا يُعنى بكلّ ما هو خارجٌ عنها، وغير المهموم بقضايا وطنه فحسب، من دون أنْ ينبس ببنت شفةٍ عن أيِّ قضيةٍ في العالم العربي أو العالم بأوسع ما للمعنى من دلالة، فيستنكر القصف الأميركي لهانوي، عاصمة فيتنام مثلما يستنكر القتل والتدمير والتشريد الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق فلسطين أرضًا وشعبًا، مثلما يستنكر القمع لثوار أريتريا فيحضر معهم، مثلما يستنكر قمع ثوّار ظفار في عُمان ويكون بين ظهرانيهم، وكل بقعةٍ من بقاع الوطن العربيتعرّضت للظلم، أو الاضطهاد، أو التخريب والتدمير، وكانت بؤرًا للثورة والتمرّد والمقاومة، تجدهُ ناطقًا عنها، مُترجمًا لسان حال ثُوّارها ومعاناتهم. كذلك غير المتخندقِ في صفِّ دينٍ، أو حزبٍ، أو مذهب، أو، أو..الخ من اصطفافات تُمليها وقائع الحياة بمساربها السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية.. ومن هنا كان للنوّاب أنْ يُمزِّقَ من حوله كلّ تلك الشرانق، ويعبرها بجدارة منتميًّا إلى الإنسان المظلوم والمضطهد، والمهمّش، والمقهور، والمناضل لاسترداد حقوقه المسلوبة؛ فلذا من الطبيعي أنْ يحفلَ شعرُهُ بكلِّ دلالات المقاومة والمقاومين، من المعاصرين من ثُوّارٍ ناقمين، وفدائيّين مقاومين، ومنشقّين متمرِّدين على السلطة ووحشية قمعها، ومن رموز استدعاها بعنايةٍ من التراث، فكان: علي بن أبي طالب، وابنه الحسين الشهيد الثائر، وأبو ذر الغفاري، وحسين الأهوازي زعيم القرامطة،..الخ من رموز أخذت مساحتها المحترمة في كيانه الشعري المنيع، ما يكشف ثقافته الثورية وتوظيفه الذكيّ لتمرير تلك الرموز وجعلها لا ملمحًا أسلوبيًّا لشعره فحسب، بل لأجل تفجير طاقة الدلالة الشعرية لديه، وجعلِ قصائده الرغيف اليوميّ تتلاقفه أيادي الناس، ممّنِ اكتووا بظلم السلطة الغاشمة، مُعرِّيًا وجهها القبيح الذي ما أفلحت في تجميله بأحابيل ادعائها بالعروبة أو الدين، أو غير ذلك من شعارات برّاقة، ولعل قوله في ضمن ملحمته "وتريات ليلية":

‌أنبيك عليا!

ما زلنا نتوضأ بالذل ونمسح بالخرقة حد السيف

ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف

ما زالت عورة بن العاص معاصرة

وتقبح وجه التاريخ

ما زال كتاب الله يعلق بالرمح العربية!

ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء,

يؤلب باسم اللات

العصبيات القبلية

ما زالت شورى التجار ترى عثمان خليفتها

وتراك زعيم السوقية!

لو جئت اليوم

لحاربك الداعون إليك

وسموك شيوعيا!

*******

إلا طريقة فذّة في تطويع الأحداث التاريخية، واستلهام الدروس في قراءة المشهد السياسي المعاصر الذي يعيشه الناس في هذا الزمن، ولعل انتقاده لمن تظاهروا بانتمائهم إلى نهج الإمام علي، واستشرافه ما سيصدر منهم في حال عودته إلى الحياة، من عداء وحربٍ له؛ لأنه على خلاف نهجهم في تعامله الإنساني حتى مع من يُخالفه في الرأي والسلوك، ولبُعده عن السلطة ومغانمها التي ينشغل بها كل من آثر العافية وحب النفس، فلم يجدوا إلا أن يصفوه بـ”الشيوعي” ذلك الوصف الذي كان عليه الشاعر إبّان تلك المدة، حين كان مؤمنًا بما تدعو إليه تلك الأيديولوجية من تحقيق أحلام الفقراء والمُدقعين، وارساء العدالة في المجتمع، فكان له أن يرى - في قرارة نفسه- أن عليًّا ذلك المُحارب العتيد جنبًا إلى جنب الرسول في حياته، ومنتصرًا لكل مظلومٍ طيلة حياته بعد رحيل الرسول، لم يكن إلا من طراز الثائرين الأُمميِّين، ممن قارع الاستكبار في أيِّ بقعةٍ من بقاع العالم، فقضيته باختصار ليست سوى الإنسان والإنسانية، وهذا ما كان عليه الشاعر، الذي آمن بهذا المبدأ ووضعه نصب عينيه، مُجاهرًا بين الناس، أنه لا يملك غير هذا الشعار، ولفضح من يدّعونَ النُسكَ والصلاح من أدعياء هذا المذهب أو ذلك، موقنًا أن الظلم وإنْ تَعدّدتْ وجوهُهُ، وتناسلَتْ فروعُهُ، فهو يبقى ظلمًا يُسيغ المظلومين مرَّ المذاق..

هذه النظرة التي انطلق منها النوّاب، كانت ميزته الشعرية؛ إذ استقى من نمير التراث العربي، ما جعله متمسِّكًا بمبادئه، داعيًا الآخرين إلى اعتناقها، غير مُبالٍ - في الوقت نفسه- إلى أيِّ تصنيفٍ سيضعهُ النُقّاد والدارسون، فلم يلتفت إلى موضة "الأجيال" الشعرية التي لفّتْ بسحرها رعيلا من شعراء عصره، فضلاً عمّن بعدهم، ولم يلتفتْ إلى قضايا "الشكل الفنّي" تلك التي تجاذبَ أطرافها شعراءُ جيله ونُقّاد ذلك العصر، فحين كان التحزُّبُ لشعر التفعيلةِ لدى بعضهم، ولشعر الشطرين التقليدي عند الآخر منهم، كان الشاعر أبعدَ ما يكون عن صدى تلك المناوشات، بكتابته كلا النمطين، فضلاً عن إبداعه في الشعر باللهجة العراقية الدارجة، وليس بعيدًا أن نستنتج أنَّ قربه من الجماهير، جعله لا يتفنّن في نمنمة القصائد واحترافية تشكيلها اللغوي، إلا بقدر ما يجعلها متاحة الفهم لأكثر عددٍ من المتلقّين، ويُشيع تداولها في أوساطٍ شعبية لا عهد لها بفكّ مغاليق الشعر العالي في سبكه اللغوي، ما جعل كثيرًا من الدارسين يصفون قصيدته بالبيان السياسي أو المنشور السِرّي الذي يُنتهج الوضوح في الخطاب بكل ما للوضوح من معنى، الأمر الذي جعله مُطاردًا وصار شعرُه سببًا لأن يُتّهم من يوجد لديه بالتآمر على النظام..! وقد لا تجد شاعرًا عراقيًّا معاصرًا لقِيَ من الحبس في السجون، ما لقِيه النوّاب، دلالةً على اندكاكه الحقيقيِّ بقضايا وطنه الصغير والكبير، ومُجاهرته بمعارضته السلطة، ودلالةً على أثره المُزمِن على السلطة، حين تجد قصائده سياطًا تُلهِب ظهور أزلام السلطة ودهاقنة السياسة، ما كان لهم أنْ يُعاقبوه بشتى وسائل الترهيب والقمع..

رحلَ الشاعر، ولم ترحلْ ذاكرةُ شعبٍ عاش قصائده التي خلّدتْ تلك الهوامش الكبيرةِ في مخياله الجمعي، وإن كانَ رحيله قاسيًا عند من نطق الشاعرُ بلسانهم، وبكت عيونُ حروفهِ البليغة معاناتهم، فما أقسى رحيله على أولئك، وما أسعد أولئك المُترفين الذين طالما أزعجهم صوتُه المُدوّي كالرعد القاصف فوق رؤوسهم العفنة.