وحشة اغتراب الانسان المعاصر في أعمال الفنان فؤاد حمدي
ينظر في المرآة، يدقق في ملامحهِ فيقول، هل هذا أنا. "من أنا هذا سؤال الآخرين ولا جواب لهُ". هناك تبادل بين وجوه الأنسان ووجوه الحيوان وكأننا في زمن لا نميز به، نوع الكائنات!! أو هي حالة تلبس واستبدال حسب قوانين اللاواقعية وامتداد الخيال الى الأفق البعيد، حيث تسكنهُ كائنات بشرية وغير بشرية لخلق عالم جديد مسكون بلا معنى ولا قيمة ثابتة في عرفهِ. عالم تسوده التناقضات وعوالم متناقضة لمدن تسكنها آخر صيحات التكنولوجيا والموضة وأخرى يسكنها الخراب والموت، لذلك هذ العوالم والمدن المتناقضة والمتنافرة تحتاج الى أن يجترح الفنان لها أسلوب وادوات تمكنهُ من التعبير عن هذه الحيرة والوحشة التي يعيشها الأنسان.
يقدم الفنان المبدع فؤاد حمدي أجمل ما لديه في اللون والخط وتداخل الأشكال والأشياء ليخلق عالم خاص به وحده، لا سواه. يجر خلفهُ عشرات الوجوه والأرواح المسكونة بزمان، تحسه ساكن للوهلة الأولى ولكن حين تحدق به يبزغ أمامك معنى، ما أن تكاد تمسك به حتى يتسرب وينفذ من ذهنك فيتركك أنسان مسكون بهواجس ذلك الزمان وغياهب المكان، حيث لا عنوان هناك لتعود لهُ، لا طريق يرشدك اليه أنسان فؤاد حمدي المهزوم بالوقائع اليومية التي تمر كلحظات أشبه بنزيف لايتوقف !!
فؤاد حمدي يجيد أن يصنع شخصياته بأناقة فائقة رسما ولوناً ويكسو تلك الأشياء بأناقة الأنسان المعاصر، فنرى في أحد أعماله كيف يجلس هذا الأنسان بكامل أناقته يلبس أحدث موديلات الأحذية وبنطال جميل جدا، نكاد أن نصل لمعرفة هوية هذا الأنسان وكينونته، ولكن عبثا تذهب محاولاتنا حين نكتشف أن هذا الرجل العصري يسكنه جسد آخر لأمرأة عارية!! قد تكون بقايا أمرأة عبث معها ذات ليلة وتركها مهزوما بخيباته من لقاءاته المتكررة بها دون معنى. حتى نجد أن عاطفة العاشقين كانت تُسكب من أحضانهما لتذهب سدى الى حفرة صغيرة تشبه حفرة لعبة الغولف كما في أحدى لوحاته !! ولكن ما أن نكاد أن نفسر ما لايفسر حتى نفاجئ بقرد ينزل من الأعلى يتناول موزا من جسد مركب بلا رأس!!. المبدع فؤاد حمدي يقدم لنا في سرياليته المعبرة مشكلة الأنسان المعاصر التائه المسكون برؤية ما لايرى!! الذي تأكلهُ وحشة الاغتراب الداخلي وعدمية المعنى للأشياء التي تحيط به، فهناك من يصاب بالإحباط ويسأم من وجوده ويشعر بعبثية الزمان الذي يتركه كهلا وهو شاب!!، فهو يعيش الحنين الى مكان أصبح لا معنى لهُ، وكأنهُ سجين ذلك القيد الذي لايبرح عن فكرهِ وعن عاطفتهِ.
عام 2019 كان بداية التحول في تجربة الفنان فؤاد حمدي، حيث فجأة توقف عن الرسم الذي زاولهُ لسنوات عديدة في أسلوب التعبيرية . حيث في لحظة أدراك لسؤال استوقفهُ عن رسوماته. جعلهُ يتوقف عن الرسم، كأنهُ يقول ما جدوى أن اكرر نفسي في أشكال مكررة . وظل متوقفا عن الرسم لأيام وأسابيع وكأنهُ يبحث عن شيء يفتقدهُ ويشعر بهِ ولايمسكهُ، عن شيء يبصرهُ بقلبه، ولكن لايراه !! ما هذا الشيء الذي يحيط بالأنسان ولا يراه ؟ وفي احدى الأمسيات، بينما كان يدخن ويفكر، سحبَّ نفسا عميقاً وأطلقهُ الى الهواء محدثا سحابة من الدخان وبينما أخذ يحدق بها ، نهض من مكانه مفزوعاً، وكأنهُ رأى شيئا يبحث عنهُ منذ سنوات. وذهب مسرعا ليحضر الفرشات والالوان ويبدأ يرسم مرة أخرى. وبعد برهة من الزمن تكون أمامهٌ في الرسم أنسان بشكل وملامح جديدة مختلفة عما كان يرسمهُ من قبل!! وكأنهُ ظفر بالمعنى الغائب الذي افتقدهُ من قبل. فهو ادرك المعنى المستتر خلف عبث الأشياء وتناقضات الحياة. أذ لا معنى لهذه الحياة في كثير من السلوك الأنساني الذي يحاصرنا بالأسئلة ولا نستطيع أن نجيب عن هذه الأسئلة ألا بأستخدام وسائل وتقنيات غير عادية من خلال الرسم والشعر والرواية والفلسفة، لذلك أدرك فؤاد حمدي أنهُ بحاجة الى أسلوب وشكل مختلف ليعبر عن كنة الحياة ومجاهيلها. والأجمل أن تتسرب فلسفة الأسئلة من خلال أدوات الفنان أو الأديب. وهذا ما فعلهُ، حين يقدم لنا مشاهد من الحياة ولكن هي ليست حياتنا الواقعية حين ندركها بأعيننا أو وعينا السطحي بل هو يقدم لنا حياتنا كموضوعات مختلفة ولكن بسرياليته الغريبة الموحشة بالأسئلة والدلالات التي تمسها التعبيرية بشيء من السحر، فيصبح لدى الفنان أسلوب مميز لا يترك مواضيعهُ بيد السريالية وحدها وأغتراباتها المؤلمة ولا بيد التعبيرية وفجائعيتها المعبرة لروح الأنسان المعاصر.
في أحد لوحاته تتجسد تلك الأشارات الخفية والعصية عن أدراك المعنى الكلي للأشياء ! فهناك قبلة حميمة لعاشقين تسحبهما اللذة الى أقصى غواياتها، في نفس الوقت هناك كلب يتدلى من عقارب الوقت ولسانهُ يلهث للعق حذاء أمرأة نستهُ في آخر لقاء عاطفي وكأن كلما زاد العناق زاد أصرار الكلب لتدلي من عقارب الوقت أتجاه ذلك الحذاء. هذه العوالم المتداخلة تشي بنا الى متاهات كنا نجهلها وحين عرفناها زاد أضطراب حواسنا.
وفي أعتقادي أن فؤادة حمدي أستخدم بذكاء سوى كان بوعي أو من غير وعي ذلك السحر الكامن في السريالية وتلك اللوعة الكامنة في التعبيرية ليقدم لنا أعمال في غاية الروعة، فيها من أناقة اللون والخطوط وأشكالها ما يجعلك حائر هل أنتً أمام أعمال استخدمت فيها الفرشة واللون، أما أنك أمام أعمال بديجتال آرت، ولا يصبح الفنان متمكن هكذا الا بعد تراكم لسنين وخبرة لأيام طويلة كي يصل الى هذه المهارات. فؤاد حمدي يتكلم بروح العصر المثقل بالأسئلة المؤلمة وبتعدد الوجوه وتلبسها بأوجه أخرى لأناس وحيوانات حين تصبح الغرائز هي المسيطرة بسلوك هذا الأنسان الذي يبتكر الموت والقتل المجاني ويترك الأنين يعم هذه الأرض، لذلك كانت أعمال فؤاد حمدي معبرة بصدق عما يجول في أعماقنا من أسئلة وهواجس.