وصفة مسرحية علاجية في جربة التونسية
جربة (تونس) - ما كان حُلمًا أصبح حقيقة بالنسبة إلى الطّفل ياسين (13 سنة) الحامل إعاقة ذهنيّة منعته من الجلوس على مقاعد الدراسة، لكنّها لم تمنعه من أن يكون بطلا لمسرحية "هيّا نعبر جسرا".
المسرحيّة عرضت في إطار مختبر "إرادة" لإدماج الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة مع زملائهم الأصحّاء في عمل مسرحي واحد بجزيرة جربة الواقعة بمحافظة مدنين جنوب شرقي البلاد.
يقف ياسين مع زملائه الأطفال الممثّلين لتحيّة الجمهور. يبدو الأمر غريبا بعض الشيء، لكنه ممتع في الوقت ذاته، خصوصا لكونهم وجدوا صعوبة في السابق في الاندماج داخل المجتمع، غير أنهم اكتسبوا اليوم، وبعد هذه التجربة، الثقة الكافية لأداء عرض مسرحي استغرق 55 دقيقة أمام نحو 250 مشاهدا.
مختبر لإدماج ذوي الحاجات الخاصة
يشرف على مختبر "إرادة " للإدماج، د.زهير بن تردايت، بالتعاون مع برنامج "بصمات" لمسرح الأوبرا و"دار الثقافة فريد غازي" في حومة السوق بجربة و"الجمعية العامة للقاصرين عن الحركة العضوية" (مستقلة) ومجمع تربوي خاص في الجزيرة.
والمختبر عبارة عن ورشة عمل مسرحي تجمع أطفالا أصحّاء وآخرين من ذوي الحاجات الخاصة بإشراف مسرحيين ومتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس.
يهدف القائمون على المشروع إلى إثبات قدرة المسرح في بداية علاج بعض الأمراض، كالتوحّد، من خلال إدماج الأطفال أصحاب الإعاقة في المجتمع. فالوقوف على خشبة المسرح لتقديم عرض فني أمام مئات المشاهدين أمر يصعب على جميع الأشخاص، ويُعد تحدّيا صعبا لأصحاب الإعاقة، لكنهم نجحوا فيه.
وأثناء مشاهدة العرض، لن تستطيع التمييز بين الأطفال الأصحّاء من الآخرين الذين يحملون إعاقة خاصة، وأن الجميع تغلّب على صعوباته وهواجسه وتمكن أخيرا من إخراج مواهبه.
موجودون على الرغم من "المرض"
يوضح الأكاديمي بن تردايت أن مختبر "إرادة" يتمحور حول فكرة إدماج 7 أطفال يحملون إعاقات مختلفة (إعاقة ذهنية أو عضوية أو مرض التوحد) مع 6 أطفال آخرين أصحاء في عمل مسرحي واحد".
ويقول "اشتغلنا مع هؤلاء الأطفال طوال 7 أشهر، واستطعنا أن نعرف قدراتهم وهواجسهم، واكتشفنا مواهبهم، ومنها كتبنا النّص الذي كان نتاجا منهم ولم ننطلق من نص جاهز".
ويرى أن "المسرحيّة تعبير على هواجس الأطفال وتحمل رسالة مفادها أنهم موجودون ولا ينقصهم أي شيء عن غيرهم، ولديهم مواهب على الرغم من الإعاقات التي يحملونها".
هواجس طفولة
تتمحور المسرحية حول بعض هواجس الصغار، والتي تم تجسيدها في شكل عرائس كبيرة، مثل "بوشكارة " (شخصية خياليّة ضحمة تضع كيسا على رأسها) و"العجوز" (شخصية خيالية لعجوز في شكل مخيف) ليتمكن الصغار من التغلّب على هذه الشخصيات، ويعبرون الجسر الموجود وسط خشبة المسرح نحو فضاء آخر.
وخلال المسرحية، يبرز "مسلم"، ابن السنوات الـ 12، والذي يعاني من إعاقة في مستوى السمع والنطق، ليرسم لوحة فنية أمام الجمهور خلال دقائق قليلة.
أما ميّار، التي تعاني من إعاقة ذهنيّة، فردّدت أغنيات عدة، متحدّية بذلك أي هاجس قد يمنعها من ممارسة هوايتها، بينما نجد مالك، الذي يعاني من إعاقة في مستوى الأيدي والأرجل، قد تحرّر من إعاقته فأدّى أكثر من 4 رقصات يصعب أداؤها على الأصحّاء، وأمتع من خلالها الجمهور الحاضر وسط القاعة فاستحق بذلك التصفيق الحار.
بدورها، تقول ريم بن قيراط (50 سنة/ ربة بيت)، أم مالك، "فرحت كثيرا عندما رأيت ابني على المسرح، وأرجو أن يتواصل هذا النشاط مستقبلا".
وتشير إلى أن ابنها الذي يبلغ 13 سنة "لم يستطع دخول المدرسة حتى الآن. وكان في السابق يشعر بقلق كبير عند بقائه في البيت، ولكن تحسّن الأمر كثيرا بعدما أصبح يشارك في المسرح إعداداً وتمثيلاً".
وتردف "أصبح لمالك الآن أصدقاء جدد، ويمكن للمسرح أن يفتح المجال أمامه لتجارب أخرى".
صداقات جديدة
شكّل العمل فرصة للأطفال لتكوين صدقات جديدة، فمثلما يجد الطفل صاحب الإعاقة فضاء جديدا للاندماج فيه، يجد الطفل الآخر فرصة لتعلّم بعض القيم والمبادئ من خلال التعرّف عن قرب على فئة جيدة في المجتمع.
تقول جيهان الفرجاني، والدة الطفلة لُجين (10 سنوات) "كانت ابنتي مغرمة بالمسرح، وعندما اتصلوا بي وعرضوا عليها المشاركة فرحت كثيرا.. نحن أيضا كأولياء تعبنا كثيرا، لكن النتيجة كانت جيدة جدا".
وتضيف "ابنتي لم تكن تعرف في السابق معنى أصحاب الإعاقة، فإدراكها لهذه الفئة كان يقتصر على مجرّد مشهد في التلفاز لشخص يجلس على كرسي متحرّك، ولكن لاحظا أنها أصبحت تعرفهم أكثر".
وتشرح قائلة "حين كانت ابنتي تعود إلى المنزل من حصص التحضير للعرض، كانت تتحدث كثيرا على أصدقائها الجدد، وتسمّيهم بأسمائهم، لا بكونهم من أصحاب الإعاقة".
تجربة ستتواصل
وعلى الرغم من التخوّف الكبير من وقوع "الأطفال الممثلين" في أخطاء خلال العرض الأول للمسرحية، تمكن هؤلاء من تقديم مستوى جيد، خصوصا مع مشاركة المدرب المتخصص خبيب الشاهد والممثلة المحترفة ضحى الشاهد إلى جانبهم خلال العرض المسرحي.
ويوضح بن تردايت أن المدربين الذين يعملون مع الأطفال متخصصون في المجال الاجتماعي والنفسي، فضلاً عن كونهم فنانين ممثلين.
ويتطلع القائمون على هذا العمل الفني إلى مواصلة التجربة مستقبلا في بقية مدن البلاد، لا سيما إثر نجاحهم الكبير في إدماج الأطفال أصحاب الإعاقة وتقديم مواهبهم للمجتمع.