ومضات أمل في كوابيس رعب 'سيدات زحل'

رواية لطفية الدليمي تلقي بالقارئ منذ صفحاتها الأولى في مواجهة مدارات الرعب والموت، لكنها لا تترك الوحش يلتهمه إذ تعلو فيها أصوات تتمسك بالحياة.

"سيدات زحل" للطفية الدليمي رواية جارحة، موجعة، ساحرة.. تلقي بالقارئ منذ صفحاتها الأولى في مواجهة مدارات الرعب والموت، لكنها لا تترك الوحش يلتهمه إذ تعلو فيها أصوات تتمسك بالحياة، بالحب والجمال،تعلن قدرتها على مواجهة كوابيس الرعب. هي أصوات سيدات زحل يقفن في وجه أهوال الحرب والقتل والاغتصاب متسلحات بالحب وبالذاكرة. تمسك حياة البابلي، الشخصية الرئيسية في الرواية، بزمام السرد لكنها لا تروي قصتها فقط،  بل تنقل  حكايا نساء بغداد (سيدات زحل) وتتكلم بأصواتهن.

تنفتح الرواية على حيرة السؤال تجاه الذات والهوية:  " أأنا حياة البابلي أم أنني أخرى؟ ومن تكون آسيا كنعان التي أحمل جواز سفرها؟". أسماء مشحونة بإيحاءات الهوية والتاريخ  تشكّل عبر أحداث الرواية  رمزية بعيدة.  تتجاوز الشخصية الساردة غمام حيرة تعلنها  بداية الرواية إلى وضوح الرؤية في بقية الفصول، مسترفدة تداعيات الذاكرة والرؤى، لتنسج من حكايتها ومن حكايات الأخريات وكراساتهن لوحة فسيفسائية للواقع العراقي بعد سقوط بغداد ( 2003)، ودخول المارينز الأميركي، وبداية تغوّل العصابات والمليشيات المسلحة وانتشار الظلاميين.

فسيفساء الحكايا:

    "سيدات زحل" هي فسيفساء حكايا ترصّفها ساردة مرتحلة عبر الزمان والمكان دون نظام واضح رغم إيحاءات عناوين الفصول..ارتحال بين الأزمنة والأمكنة يتداخل معه نسيج الحكايا والمصائر، يرتدّ السرد حينا إلى تاريخ بعيد زمن هجوم هولاكو أو دخول تيمورنك  بغداد، ويعود إلى زمن قريب، تاريخ  بغداد بعد الغزو الأميركي .وقد يرتدّ أحيانا إلى  بدايات مدينة السلام، مع أبي جعفر المنصور وهو يخطط لبناء  المدينة، لتلتبس الأزمنة وتتداخل  لكن الوجع واحد، المنطق الوحيد الذي يشد الأحداث إلى بعضها هو منطق الرعب والفواجع والخيبات.   

    تعلن الساردة إصرارها على كتابة سيرة المدينة، أو "سيرة ناس ومدينة " كما تنص عليه العتبة الأولى (عنوان الرواية الثاني)، سيرة  تحفظ الذاكرة، لكنها ترد في سياق لا يخضع لأيّ منطق إلا ما يفرضه سياق الحكي: "كانت الحكايات تنهمر عليّ كطوفان أهوج بلا منطق ولا سياق، وأنا أكتب وأجمع أوراقهم مع كراساتي حتى عجزت عن تنظيمها  في سياق زمني. وهل كانت أحداث حياتنا وحروبنا ومدينتنا ذات منطق وسياق؟ " لذا تعلن الساردة/ الشخصية  رفضها البحث عن نظام ممكن للحكايا: "وما شأني بالنظام والاتساق في عالم مضطرب لا منطق لأحداثه؟ " ص20.و يغدو هذا الإعلان عن نسق الرواية الحدثي نوعا من "النص الواصف" أو الميتا سرد، إذ يكشف تدخل المؤلفة أو تماهيها مع الساردة في ضرب من التخييل الذاتي. وفي الرواية مؤشرات عديدة على هذا التماهي بين الشخصية الرئيسية (حياة البابلي) وشخصية الكاتبة (لطفية الدليمي) رغم محاولات التقنّع والتخفّي.

   ولأن "سيدات زحل" هي سيرة مدينة طالتها أيدي الظلاميين والمغتصبين فجعلتها كما تقول الساردة  "تتقلب في لجج النار والدم ويصرعها الجنون"، قررت الساردة أن ترسم هذا الجنون وتشكل من شظايا حكايات المدينة لوحة فسيفساء تعكس هذه الفوضى  : "فلأنتقل بين الأزمنة وأحوال مدينتي في عصورها وحكايات البنات وأصنع صورة من هذا الحطام كفسيفساء تشبهنا".إيحاء صريح بالتواشج بين بنية المجتمع و بنية الرواية." فعندما تتشظى الأبنية الاجتماعية ويفقد الإنسان وحدته مع ذاته، لابد من الاستناد إلى جماليات التفكك بدلا من جماليات الوحدة والتناغم." (شكري عزيز الماضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة 2008).

في مقاومة النسيان :

      تتعدد الأصوات في الرواية بتعدد الكراسات والرؤى، تلتقي  في رفض الصمت ومقاومة النسيان والإصرار على الحياة. يرد بعضها مباشرا في الكراسات والرسائل (كراسات الشيخ قيدار، كراسة بهيجة التميمي،  رسائل لمى...)، و يرد الآخر على لسان الساردة  حياة البابلي أو عبر رؤاها  ( كلام البستاني في الكراسة 35)..

تلتقي جل الشخصيات في رفض الاستكانة للموت والنسيان فتغدو الكتابة بذلك سلاحا ضد النسيان. تقول راوية "حياة لكي لا ننسى، اكتبينا قبل أن نموت وتطوى حكاياتنا احفظينا في كراساتك كما حفظت كراسات عمك قيدار". ويكتب الشيخ قيدار لحياة "اجمعي من الموسرين ما يجودون به لإنجاز البحوث عن بغداد وحفظ تراثها". ولن يكون سفره وغيابه عن المدينة سوى ارتحال من أجل تحقيق حلمه ب"تدوين ذاكرة مدينة موشكة على التلاشي".

يهيمن في الرواية صوت الأنثى المقاومة، تصمد في وجه الرعب والقبح والدمار وقد تسلحت بالحب والأحلام، وإن انتهى البعض من سيدات زحل إلى مصير قاتم، فذلك بعد أن أثبتن للناس "قدرة النساء على العيش دون رجال في بلاد الحروب التي تلتهم أبناءها".

     وليست حياة البابلي إلا الأنثى التي جندت نفسها لحماية البنات بإخفائهن في السرداب وترحيلهن سرا خارج البلاد، كما جندت قلمها لكتابة التحقيقات الصحفية حول ضحايا العنف الطائفي، قبل أن يدرج اسمها ضمن المهددين بالقتل. المرأة  في الرواية هي التي تقاوم الموت بتوزيع الأدوية على المستشفيات فتواجه  بالتهديد بالقتل لمجرد أنها تسلمتها من جهات أجنبية (منار) وهي الأنثى  التي تنثر حب الحياة حولها سواء بالموسيقى (لمى) أو بتوفير أنواع الفرح لمن حولها (لمى، هيلين، زبيدة التميمية..)

 السرداب والمدينة المعطوبة:

      تعكس سردية المدينة انكسارات بغداد وتداعيات حروب واضطهادات عاشها العراق ماضيا وحاضرا. بغداد هي المدينة المرآة ترى فيها الساردة ماضيها وحاضرها، المدينة المعطوبة شوهتها أيدي السلطة والاستبداد (خطف زوجة العم قيدار،ثم اعتقاله لاحقا،  إعدام ماجد...) لتخربها أيدي الغزاة بعد الغزو الأمريكي ( 2003)، ويسود فيها قانون الغاب وينتشر العنف الطائفي والإرهاب والانفجارات والدمار.. هي المدينة "المذبوحة" وقد سرى الفناء في شوارعها "أضيع نفسي في طرقات بغداد وأسواقها المهجورة وخاناتها العباسية وجوامعها الموصدة، أهيم بين الأنقاض فلا أهتدي لشيء ولا أتعرف لغير الفناء يسري في الجدران والشجر".

في مقابل دمار المدينة و أعطابها، يتكفل السرداب بحماية الإنسان من الموت والفناء.السرداب هو الملجأ والملاذ تحتمي به سيدات زحل من شؤم طالع المدينة، يتشكل فيه عالم نسوي و يعلو فيه صوت المرأة المقاومة لمحاولات المحو والتدمير، المؤمنة بحريتها في اختيار مصيرها. والسرداب هو الفضاء الذي يحفظ ذاكرة الوطن المتشظية ويحمي تاريخه من التلف والضياع. ورغم عتماته حيّزا مكانيا، فإنه سينفتح لا على كوابيس الرعب والاستيهامات فقط، بل على الأحلام والرؤى المشرقة  ليغدو انعكاسا  لصورة صاحبته حياة "سادنة مقامات الأمل".  في عتمات السرداب تنطلق الموسيقى صادحة وتزهر الأحلام. فيه تدرك حياة البابلي أن العم قيدار لم يفرّ إلا "ليحرس بعض إرث العقول"، لينشئ جمعية تحفظ الكنوز المعروضة للضياع.  فرؤيا حياة البابلي في السرداب تعلن أنه لم يهرب ولم يغادر بغداد بل يقول عنها العم قيدار "أنا فيها وهي فيّ".

  ينفتح السرداب على الرؤى تبني مستقبلا أجمل، ففي رؤيا حياة الأخيرة  يظهر البستاني الياباني، وقد شهد مأساة هيروشيما، ويعلن سرّ تعهده زهرة أوكيناوا جلبها معه في ترحاله وحفظها من الدمار، ويدعو حياة البابلي إلى حفظ بذورها : "لا تزرعيها الآن، انتظري حتى تموت الحروب وتظهر لك العلامة كما ظهرت لي ". يغدو السرداب المكان الرمز، لا يسع الأنثى ويحمي نضالها فقط، ولا يسع ذاكرة المدينة المعطوبة فقط، بل يسع أحلام الإنسان، ويغدو فضاء يستعيد فيه قدرته على الحب والحلم.

جماليات اللغة وقبح العالم :

   تنضح رواية "سيدات زحل" بالرموز الموحية، و تبني من التنافر والتضاد ومن العجائبي روابط خفية و دلالات مشعة تؤسس لجماليات التفكك.  تضفي  لطفية الدليمي على اللغة  طاقة إيحائية شعرية تتجاوز غموض الصورة  إلى وضوح الدلالة وإشعاع الأفق والمعنى.

    لقد شكّلت الساردة/ الكاتبة  من حطام  الأحداث (الكراسات) لوحة فسيفسائية  لمدينة ولوطن في مراحل متعددة من التاريخ العراقي، استطاعت بها أن تواجه قبح الواقع، وعمدت إلى نحت لغة قوامها إيقاع المفارقات والتنافر، والصور الشعرية والرموز، تغطي بها عراء الإنسان وتشوّهاته."خرست الساعات ووجدتني في عراء والزمان عماء. المكان معتّم لكنني أرى ضوءا "..."قلت له : الحب ليس ارتباط جسدين وحوار روحين فحسب. إنما هو إعادة خلق الزمن بأصابعنا المشتعلة، الحب عناق الشمس ورنين الأجراس في ساحة الفرح، لم أشأ أن يكون حبنا تكرارا لأي صورة سابقة،بل ميلادا من جسد الحرب، ضوءا من حريق الماضي، نفحة عطر من رياض الحقيقة التي غادرت هيولى الحلم إلى التشكل بين أيدينا".ص 294

   وكما شكلت من الخراب لوحات صادمة، رسمت لطفية الدليمي في سيدات زحل "مشاهد فردوسية" في غنائية شفافة و لوحات شعرية، وكأنها تواجه بها "انهيار اللغة وتهاوي أصداء الكلام مرتطمة بالجدران حين حرّم حراس الفضائل من فوق المنابر تداول الشعر والروايات والقصص". ارتحلت بالشعر في أفضية اللغة الشاسعة، كما ارتحلت بالحدث من حصار الواقع و قوانين المنطق إلى رحابة العجائبي وإلى لامحدودية اللامعقول..  فيه يقف الشاعر، بل يقف التراث والتاريخ، صادحا  في وجه غطرسة الأجنبي المحتل : "رأيت المتنبي بعمامته وطيلسانه يهبط من عليائه متخليا عن كبريائه ويعدو في الأزقة منشدا "... أما أبو نواس فكان "يترنح ثملا والدموع تسحّ على وجنتيه الضامرتين ما بين فندق الميرديان والشيراتون اللذين استوطنت فيهما القوات الأمريكية.. جندي من المارينز أطلق الرصاص من مكمنه نحو الشاعر المترنح، وأبو نواس يمضي قدما غير آبه بالنار". ص 29

     رمزية الشاعر غير الآبه بالنار لا تختلف كثيرا عن رمزية سرمد، الشاب العبقري الذي تجاوز كل التوقعات في تطوره العقلي واختراعه العلمي، كذلك رمزية زهرة الأوكيناوا تتسلمها حياة البابلي من بستاني ياباني عاش بعد قنبلة هيروشيما، وبقي محافظا على بذور الجمال التي هرّبها ليغرسها في مكان ما من العالم، حين تنتهي الحروب.

 رواية "سيدات زحل" هي رواية المفارقات والتشوّهات والذاكرة المتشظية، تتكئ على الرؤى والاستيهامات دون أن تفقد الصلة بالواقع. تحمّل الأنثى  رسالة النهوض بأعباء الحياة واستعادة الوطن المستباح، ترسم أوجاع الإنسان في عالم مستلب، لكنها لا تفقده الأمل في نور قادم وفي رؤية زهرة النجاة  تحيا من جديد.