"وهذا أيضًا سوف يمضي" .. مُقاومة الزمن بالحب والمرح

الروائية الكتالونية ميلينا بوسكيتس تنطلقُ بصيغة منولوجية تسحبُ الستار عن المحتوى النفسي لشخصية البطلة بلانكا التي تستغربُ بلوغها لسن الأربعين.
الراوية تُعلن عدم قدرتها على قراءة الكتب لأنَّ طيف الأم ساكن في طيات صفحاتها
الصياغات التجردية لا تتسقُ وخصوصية الأدب وأبعاده الجمالية

يبدأُ الإدراك لدور الزمن وتأثيره على الرؤية وأفق التفكير عندما يخرجُ الإنسانُ من وهم المُطلق، ويقتنعُ بفعلِ احتكاكه مع الظواهر الوجودية بمحدودية زمنهِ، وحتمية فنائه وأصبح السؤال عن الزمن ومقاومته ركناً أساسياً في الأطروحات الفلسفية بقدر ما شغلَ الموضوع ذاته الأعمال الأدبية التي تكتسبُ الهموم الوجودية دوراً محورياً في سياقها.
وبالطبع فإنَّ أسلوب الأدب في مقاربةِ تلك المسائل مُغاير عن الآليات الشائعة في حقول معرفية أخرى، أكثر من ذلك فإنَّ الصياغات التجردية لا تتسقُ وخصوصية الأدب وأبعاده الجمالية، لذا فإنَّ الصراع مع الزمن حين يتحولُ إلى ثيمة روائية يجبُ أن تتَخذ شكلاً ملائماً لحيثيات التشكيلة السردية، هذا إضافة إلى ضرورة وضوح الدافع وراء وجود الفكرة الأساسية التي ينهضُ عليها العملُ الروائي الأمر الذي تبنتهُ الروائية الكتالونية ميلينا بوسكيتس في روايتها الموسومة بـ "هذا أيضاً سوف يمضي" الصادرة حديثاً من مسكيلياني – تونس، إذ تنطلقُ الرواية بصيغة منولوجية تسحبُ الستار عن المحتوى النفسي لشخصية البطلة بلانكا التي تستغربُ بلوغها لسن الأربعين وهي توقعت وضعية وجودها في مراحل عمرية متابينة كأنَّ تكون في الثلاثين تعيشُ حب حياتها مُحاطةً بالأبناء أو محتفية بعيد ميلادها الستين وسط أحفادها لكن حلقة الأربعين كانتْ غائبة في لوحة الخيال. 
ومع مضي السردِ يُفهم بأَنَّ هذه المناجاة تأتي مُتزامنةً مع موت الأُم وحضور الابنة في تشيعها، وهي لا تدري كيف وصلت إلى القرية وتستنكرُ ما عليه شكلُ ملبسها البائس، وبهذا يتضحُ أنَّ الموت هو ما يستدعي التفكير في الزمن مع التلميح إلى أنَّ المرأة التي غيبها المرضُ لم تكُنْ عادية. إلى جانب الموت وما يعنيه من الإنتهاء ينفتحُ هذا العمل على الحب والمرح والعلاقات الإنسانية المُتنوعة.

المؤلفة شرعت بكتابة هذا النص عقب رحيل أمها، وهذا ما يذكرك بموقف إيزابيل الليندي التي كتبت "باولا" بعد موت ابنتها عسى أن تكون في الكتابة إستشفاء من حسرة الموت

صخبُ الحُب
لا تَكفُ الابنة عن مُخاطبة الأُم بعد غياب الأخيرة وأحياناً لا تُصدقُ بأنها توارت عن الأنظار إلى الأبد، فهي تستذكرها وتعيدُ تركيب المواقف التي رافقت فيها الأمَ يترددُ كلامها في المخيلة تحتفظُ بكتبها وصندوق مُقتنياتها وبسترتها ما يعني أنَّ رحيل الأم في حياة بلانكا أحدث فراغاً كبيراً. وما يُضاعف هذا الشعور أكثر هو أنَّ الأب أيضاً قد اختفى أثره في الحياة بعد إصابته بمرض السرطان بينما كانت هي طفلة صغيرةً إذ تستحضرُ صورة الأم عندما تحاورها بعين ملئها الدموع بليلة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. 
فوق هذا تُعلن الراوية عدم قدرتها على قراءة الكتب لأنَّ طيف الأم ساكن في طيات صفحاتها. كل ذلك يوحي بأنَّ بلانكا تماهت مع شخصية الأم المؤثرة التي بمجرد أن ترى ابنتها تنفذُ إلى ما تعيشهُ من التحولات إذ عرفت بأن صديقها أوسكار يرتادُ شقتها، ومن ثُمَّ عندما تكون حاملاً لا ينطلي الأمر على الأُم. مُقابل هذه التجارب الصعبة فإنَّ الحُب والعلاقات الحميمية هو وجه آخر لحياة بلانكا. 
فضلاً عن زواجها مرتين فهي تُقيمُ علاقة مع سانتي الرجل المتزوج الذي جابت برفقته برشلونة. وكلما استوحش مرض أمها انغمست أكثر في علاقات حميمية. ضف إلى ذلك فإنَّ ما تسميه بالرجل الوسيم يلفت انتباهها أثناء مراسيم دفن الميت إذاً فأنَّ أيامَ بلانكا صاخبة بالحب وعندما تنفصلُ عن زوجها الأول غيليم تزعمُ بأنَّها تقضي بقية العمر مُغتربةً عن أرض الحب، لكن تدخلُ تجربة أخرى مع أوسكار وتُدرك بأنَّ من بين الأشياء أكثر إثارةً في الحب هو قدرته العجيبة على أن يولد من جديد، ولا تنتهي رغباتها بعد موت الأًم بل تُقاوم الأجواء الكابية والشعور بالوحدة بمزيد من التغلغل في الملذات إذ تُسافرُ مع صديقاتها إلى كاداكس لتتذوق طعم مغامرات أخرى في المكان الذي يضمُ رقدة الأم الأخيرة. 

Translated novel
الابنة لا تَكف عن مُخاطبة الأُم 

سحر المرح
تتصف شخصية بلانكا بالمرحِ وحب الحياة وعدم التقيد بمواضعات متعارفة عليها وما أكسبها هذه الصفات هو النشوءُ متأثرة بسلوك الأمِ اليسارية لذا تُفضلُ أن تمضي أياماً مُفعمة بالحيوية مع صوفيا وإليسا وبقية الأصدقاء، وتضربُ موعداً مع زوجيها السابقين مقترحةً على أوسكار بدء مرحلة جديدة، غير أنَّ الأخير على الرغم من حبه الشديد لزوجته يُفضل التمتع باللقاءات الخاطفة. وما تَطمئنُ إليه بلانكا في شخصية غيليم إخلاصه ووقوفه بجوارها في الأزمات وهي متأكدة بأنهُ لن يرسلها إلى دار العجزة. وهذا مؤشر آخر على هاجس الزمن الذي تتواردُ الإيماءات بشأنه على امتداد الرواية. " "
بعكس بلانكا تبدوُ إليسا شخصية مُتمسكة بالتنظير وتسمعُ على لسانها تحليلات سياسية ونفسية. لكن ذلك لا يمنعها من أن تغارَ على صديقتها المُنفتحة خصوصاً عندما تجدها تتبادل القبل مع حبيبها داميان، ما يثير حساسيتها مبديةً رفضها لهذا التصرف. وعلى أثر ذلك تنقطع العلاقة بين الصديقتين. أما عن صوفيا فهي تريدُ أن تلفت الإهتمام بالإشارة إلى موقعها الوظيفي هكذا مع أنَّ الرفاق يتقاسمون المكان لكن طبائع مختلفة وتطلعات متباينة يعيشُ كل واحد من هؤلاء في عالمه وتنفردُ بلانكا من بين الجميع بالتعبير عن شخصيتها المُتفاعلة والتكتم على ما يضجُ به أعماقها من الحنين والشوق إلى الأم، وأنَّ كل الحب الذي يمنحها الأصدقاءُ وولداها لا يعوضُ غياب المرأة التي علمتها الكثير. 
تتسعُ الحلقة السردية لشخصيات أخرى منها الغريب الوسيم الذي تتواصل معه بلانكا في إحدى المقاهي ويتعرف على سبب حضوره في يوم الجنازة، فكان والد مارتي صديقاً لأُمها وطاب للأخيرة الإستماع إلى صوته الجميل. عدا ذلك تشاركُ ناتشو في حفل الرقص، إذ تلتقي بالأخير فيما هي تتجولُ في الشارع. هنا توميء الراوية إلى ما يحملُ دلالة زمنية عندما تقولُ إن العالم ينقسمُ إلى أولئك الذين يجلسون على مقاعد الشوارع ومن لا يجلسون على تلك المقاعد.
ملمحُ آخر من الرواية هو عنصر الفكاهة والمرح الذي ينمُ عن رؤية البطلة من خلال الجمل والمواقف المحبوكة بالنص الروائي. تتعايشُ بلانكا مع ذكرى الأم وتقودها الخطى دون تخطيط مسبق إلى المقبرة وتبداُ بدق بابها منادية تلك المرأة التي لم يمر على رحيلها إلا ثلاثون يوماً ونيفا ومن مكانها تتخيل الأم بقميصها الحائل مصحوبة بكلابها الثلاثة قبل أن تصعدَ على متن القارب تلتفت قائلةً لابنتها "هذا سوف يمضي".
تمررُ الكاتبة حكمة صينية في نهاية الرواية توحي بأنَّ "الألم والحزن يمضيان كما البهجة والسعادة". 
يشارُ إلى أن المؤلفة شرعت بكتابة هذا النص عقب رحيل أمها، وهذا ما يذكرك بموقف إيزابيل الليندي التي كتبت "باولا" بعد موت ابنتها عسى أن تكون في الكتابة إستشفاء من حسرة الموت.